إكوفيد(EcoFeed): الاقتصاد الدائري في خدمة الزراعة المستدامة في تونس

مايو 8, 2025
مشاركة في

من قلب أزمة الأعلاف التي عصفت بمزرعة عائلتها في قابس، ولدت فكرة ملاك بوكثير: بسيطة في ظاهرها، مبتكرة في جوهرها. حولت النفايات العضوية إلى أعلاف حيوانية مستدامة، مطلقةً مشروع “إيكوفيد”، الذي بات اليوم نموذجًا للابتكار البيئي، وأداة فعالة لدعم الفلاحين وحماية البيئة في تونس.

“حلم ريادة الأعمال نشأ معي منذ الصّغر، وأرغب فعلاً في أن أصنع التغيير في مجالي وفي بلادي… أريد أن يُخلّد اسمي في تاريخ هذا الوطن”. كلمات جميلة معبّرة تنبض بروح التّحدي والفخر، صرّحت بها رائدة الأعمال الشابة ملاك بوكثير، التي تبلغ من العمر 28 سنة، أصيلة ولاية قابس في الجنوب الشرقي لتونس، وتحمل شهادة دكتوراه في الهندسة الكيميائية.

لم تكتفِ بالعمل في المجال الأكاديمي، حيث كانت تهتم بحماية البيئة واستعمال الموارد بطريقة مستدامة، وبدأت تتساءل عن مصير النفايات العضوية الناتجة عن الصناعات الغذائية في تونس. من هنا جاءت فكرتها: تحويل هذه النفايات إلى أعلاف للحيوانات.

بدأ حلم ملاك منذ الطفولة، في ريف قابس، حيث كانت تشاهد خالها يعتني ببقراته كل صباح، يُطعمهن بيده، ويناديهن بأسمائهن كأنهن بناته، وكانت مزرعته الصغيرة مصدر رزقه الوحيد. لكن بين 2015 و2018، واجهت تونس أزمة أعلاف، وأصبح من الصعب إطعام الأبقار. وقد اضطر خالها في كل مرة إلى بيع واحدة ليُطعم الأخريات، وكان الأمر مؤلماً. تأثرت ملاك كثيراً بهذه المعاناة، ومن هذا الوجع ولدت فكرة مشروع “إيكوفيد”؛ مشروع يزرع الأمل، ويحوّل النفايات إلى مورد، والحزن إلى حلّ.

كان الهدف من هذا المشروع تقديم بديل بيئي واقتصادي محلّي للأعلاف المستوردة، التي غالباً ما تكون مكلفة بالنسبة للمزارعين الصغار في تونس، وفي الوقت نفسه تقليل البصمة الكربونية للقطاع الزراعي من خلال إعادة تدوير النفايات العضوية محلياً. ويندرج مشروع “إيكوفيد” في إطار من الاستدامة الحقيقية.

الحلم في وجه الواقع 

وعلى الرغم من أن فكرة المشروع كانت فريدة من نوعها الا ان صاحبته اضطرت إلى تعديلها أكثر من مرة قبل أن تصل إلى النموذج الحالي القابل للتطبيق والنجاح.

في البداية، كانت فكرة ملاك طموحة جداً، لكنها لم تكن منسجمة تماماً مع الواقع الفلاحي في تونس. واجهت صعوبات في توفر المواد الأولية. كما أن بعض الفلاحين لم يتقبلوا المنتج الجديد بسهولة. إضافة إلى ذلك، كانت تكلفة الإنتاج مرتفعة. 

لهذا، كان عليها أن تدخل في دورات متكررة من التجريب والتقييم والتعديل حيث غيّرت ملاك تركيبة المواد و طوّرت آليات المعالجة كما أعادت صياغة نموذج العمل أكثر من مرة، لتوفّق بين الجانب العلمي والنمو الاقتصادي والاجتماعي للمشروع.

هذا المسار لم يكن سهلاً، لكنه ساعدها على بلورة منتج فعّال ومبتكر يراعي خصوصيات السوق المحلية، ويثبت أن المرونة والتعلم من التجربة هما مفتاح النجاح لأي مبادرة رائدة.

 ومن بين الإشكاليات أو التحدّيات التي واجهتها ملاك بوكثير كانت مشكلة التمويل لان تكلفة المشروع كانت عالية و قد تمكنت من تجاوز هذا الإشكال من خلال دعم عائلتها لها ومشاركتها في عديد المسابقات فضلا عن حصولها على منحة من الاتحاد الأوروبي لاحقا.

“Jeun’ESS: دعم أوروبي يُنقذ الحلم ويحوّله إلى مشروع ناجح”

منذ البداية، آمنت ملاك بوكثير بأن مبدأ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني هو الركيزة الأساسية التي ستُبنى عليها فكرة مشروعها. وقد وجدت في مشروع Jeun’ESS، التابع للاتحاد الأوروبي، الدعم الذي مكّنها من تحويل فكرتها إلى واقع.

يُعد مشروع Jeun’ESS مبادرة ممولة من الاتحاد الأوروبي ضمن برنامج EU4Youth، ويهدف إلى تعزيز الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في تونس، خاصة في المناطق الداخلية، من خلال دعم الشباب وتمكينهم اقتصاديًا.

استفادت ملاك من هذا المشروع على مستوى التمويل، حيث حصلت على دعم مالي مباشر ساعدها في تطوير وحدات إنتاج الأعلاف الخاصة بمشروعها “إيكوفيد”. كما ساهم المشروع في إضفاء طابع من المصداقية على مبادرتها، ما مكّنها من توسيع نشاطها التجاري والوصول إلى عدد أكبر من الفلاحين.

ولم يقتصر الدعم على الجانب المادي، بل شمل أيضًا المرافقة التقنية، إذ تمكنت ملاك من حضور ورشات تدريبية في مختلف مراحل إعداد المشروع. وقد تلقت تكوينًا في مجالات عدة مثل إعداد خطة العمل والتمويل (Business Plan)، إضافة إلى مبادئ الإنتاج النظيف، بهدف تبنّي ممارسات تصنيع مستدامة وتقليل الأثر البيئي لمشروعها. واليوم، تمتلك ثلاث وحدات إنتاج ضمن مشروع “إيكوفيد”، وتقوم بتسويق الأعلاف في مختلف جهات البلاد.

المعالجة الحيوية في قلب الابتكار

يعمل مشروع “إيكوفيد” الذي أسسته ملاك بوكثير وفقا لنموذج دائري مبتكر، يقوم على تحويل النفايات العضوية إلى أعلاف حيوانية طبيعية وذات تكلفة منخفضة، بما يساهم في دعم الفلاحين وحماية البيئة.

 ينطلق المشروع من جمع مخلفات الأسماك، والخضر، والثمار، وبقايا الزيتون من الأسواق والمعامل المحلية، ليُخضعها لعمليات معالجة علمية تشمل التجفيف، التخمير، والخلط البيولوجي بإشراف خبراء في الهندسة الكيميائية والتغذية الحيوانية .و الناتج هو علف محلي غني بالبروتينات، صالح لتغذية الأبقار، الأغنام، والدواجن، ويُعد بديلاً بيئياً واقتصادياً عن الأعلاف المستوردة.

 لا يقتصر المشروع على الإنتاج فحسب، بل يعزز الاقتصاد المحلي من خلال إعادة إدماج النفايات في الدورة الاقتصادية، وتقليص التلوث، وتوفير فرص عمل خضراء. كما يستخدم “إيكوفيد” مصادر طاقة نظيفة، ويعمل على تطوير وحدات معالجة متنقلة لفائدة المناطق الداخلية.

إلى جانب تنظيم حملات توعية وورشات لفائدة الفلاحين تتضمن مرافقة مصحوبة بتوصيات بهدف اصلاح بعض الممارسات المغلوطة وبالتالي تمكين الفلاّح من تحقيق الرّبح دون الإضرار بالمقدرة الشرائية للمواطن في وقت لاحق

 “ملاك بوكثير رائدة الأعمال لسنة 2025”

وكتتويج لها تحصلت ملاك بوكثير، مؤسسة مشروع “إيكوفيد”، على جائزة “رائدة الأعمال لسنة 2025” في تونس، وذلك خلال الدورة العاشرة من تظاهرة “جوائز رائدات الأعمال التونسيات” (FET) التي نُظمت يوم 24 فبراير 2025 بدعم من الاتحاد الأوروبي.

هذا التتويج يُعد اعترافًا بمساهمة ملاك في الابتكار البيئي وتعزيز الاقتصاد الدائري من خلال مشروعها “إيكوفيد”. كما يُبرز الجائزة الأهمية اللتي يوليها الاتحاد الأوروبي لدعم المبادرات النسائية الرائدة في مجالات التنمية المستدامة والابتكار في تونس.​

في زمن تختنق فيه الأرض من التلوث البشري وخاصة ولاية قابس بإعتبارها إحدى المناطق الصناعية ، اختارت ملاك أن تسمع صوت الأرض فما بدأ كمشكل  في مزرعة عائلية صغيرة بقابس، تحوّل إلى مشروع وطني يُعيد تعريف معنى الغذاء، والابتكار، والكرامة الزراعية. “إيكوفيد” ليس مجرد مكان لتصنيع الأعلاف… إنه وعد بأن الحلول الكبرى قد تنبت من جراح بسيطة، حين تسقيها امرأة بالحلم، والعلم، والإيمان.

اقرأ في: English Français