غادرت الحافلة العاصمة التونسية الصاخبة في وقت مبكر من يوم الجمعة 6 سبتمبر محمّلة بطاقة وحماس 15 من أعضاء EU Jeel Connect وممثل عن مجتمع #InTheirEyes وممثلين عن بعثة الاتحاد الأوروبي وعن برن
مج الجوار الأوروبي جنوب. ما هي المهمّة الموكلة لهم يا ترى؟ انطلق الجميع في رحلة ستأخذهم إلى الغابات الواقعة شمال البلاد التّونسيّة لزيارة المشاريع الممولة من الاتحاد الأوروبي ومقابلة المنتفعين الذين تغيرت حياتهم بفضل هذه المبادرات. تهدف الرحلة التي أُطلق عليها اسم “مطاردة النجوم على الطريق”، إلى تقريب المشاركين من الواقع اليومي لهذه المشاريع وإبراز أهميتها بالنّسبة للمجتمعات المحليّة.
المحطة الأولى هي مدينة باجة، حيث زارت المجموعة الإذاعة المحليّة راديو شمال اف ام، لمشاركة رحلتهم مع المستمعين ومناقشة الاهميّة التي تكتسيها زيارتهم. كانت المعنويّات عالية عندما تحدث أعضاء شبكة EU Jeel Connect عن المغامرات التي سيخوضونها مستقبلا وعن العمل المذهل الذي يتم انجازه في الشّمال التّونسي. يقيم في تلك المناطق المعروفة بغاباتها الكثيفة ومواردها المائية الغنية قرابة عُشر سكان البلاد ويحمل السكان المحليّون تقاليد عريقة في العمل بانسجام مع الطبيعة ستتمكّن المجموعة من الاطلاع عليها عن كثب خلال الزّيارة.
مبروكة ومهاراتها الرياديّة في تعاونيّة البركة بالتباينيّة
الوجهة الموالية هي التباينيّة الغابيّة حيث توجد وحدة البركة، وهي تعاونية نسائية متخصّصة في اعداد المنتجات الغابيّة. بقيادة مبروكة العثيمني، تنتج التعاونية زيوتا روحيّة ومياه الأزهار ومنتجات التجميل المصنوعة من المخزون النباتي الثريّ في المنطقة مثل صمغ المستكة وإكليل الجبل والزعتر. رحّبت مبروكة التي يطلق الجميع عليها اسم ” ملاك التباينيّة” بالمجموعة واستقبلهم بأذرع مفتوحة. مبروكة عزباء ولم تنجب أطفالا وقد صبّت كلّ جهودها وحماسها في قيادة التعاونية وفي الإحاطة بأكثر من 30 امرأة تعملن تحت إشرافها. و قد قال أحد أعضاء شبكة EU Jeel Connect بشأنها بعد أن اطلع على قصّتها و شهد شغفها بتوجيه فريقها: ” مبروكة هي نجمة العرض”.
قدّم السيد جاد بوبكر من منظمة العمل الدولية، الجهة المكلّفة بتنفيذ مشروع ” المبادرة النموذجيّة للتنمية المحليّة المندمجة” الممول من الاتحاد الأوروبي الذي قدّم الدّعم لتعاونيّة البركة، لمحة عن نشأة التعاونية: ” لم تكن غابات الشمال التّونسي أبدا غابات عذراء. فمنذ العصر الروماني أو حتى قبل، كان السكّان يعيشون فيها في تناغم مع الطبيعة. ونحن اليوم بدعم من الاتحاد الأوروبي، نحيي هذه التقاليد القديمة وندخل بها إلى عالم الحداثة مع ضمان الاستدامة”.
شدد جاد بوبكر على أهمية المشاركة المحلية، موضحا أن مشروع ” المبادرة النموذجيّة للتنمية المحليّة المندمجة” لا يتعلق فقط بتوزيع المساعدات بل بتمكين المجتمع المحلي وتملّكه لمكوّنات المشروع. وقال إن النساء هن العمود الفقري الحقيقي للمنطقة لأنهنّ “تعملن وتستخلصن الفواتير وتدرن بيوتهنّ. هنّ القادة هنا وستشهدون ذلك على امتداد بقيّة الرحلة”.
بينما كانت المجموعة في طريقها لمغادرة تعاونيّة البركة، شعر الجميع بإعجاب كبير وواضح تجاه مبروكة والنساء اللاتي تعملن معها حيث تبيّنوا أنّ الرّحلة التي انطلقت لتوّها قد فتحت بصيرتهم على التأثير العميق والقيّم لهذه المبادرات الممولة من الاتحاد الأوروبي على المجتمعات الريفية في تونس والتّاريخ الغني والنابض بالحياة الذي تحمله تلك المجتمعات في طيّاتها.
الحفاظ على التقاليد مع نساء جمعيّة مساندة حرفيّات خمير بعين دراهم
المحطة الثانية كانت مخصّصة لزيارة جمعيّة مساندة حرفيّات خمير التي تأسست سنة 1995 بهدف الحفاظ على مهارات نساء خمير الرّاجعة إلى مئات السّنين. تتخصّص تلك الحرفيّات الموهوبات في صناعة زرابي بربريّة رائعة الجمال وتعتمدن في تخضيب المواد الأوليّة على الأصباغ الطبيعيّة المستخلصة من النّباتات ممّا يدلّ على ارتباطهنّ الوثيق بالموارد الطبيعية المتوفّرة في منطقتهنّ.
عمل مشروع JEUN’s ESS الممول من الاتحاد الأوروبي، والذي يدعم هذه الجمعية، على خلق وظائف لائقة للشباب في المناطق المحرومة مع تعزيز الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. وعلى غرار تعاونيّة البركة، تنزّل جمعيّة مساندة حرفيّات خمير النّساء في صميم عملها ممّا يمكّن تلك الحرفيّات لا فقط من حماية تراثهن الثقافي بل وأيضا من تحسين ظروفهن المعيشية عبر التّرويج للحرف اليدوية التونسية.
عندما دخل أعضاء شبكة EU Jeel Connect استقبلهم إيقاع أنوال النّسيج وهي تعمل وكانت الحرفيّات تركّزن بشدّة على التّقنيات المعقّدة التي تعتمدنها في نسج الزّرابي البربريّة الرّائعة. عندما عاين الشباب عمليّة نسج الزربيّة عبّروا عن انبهارهم إزاء كميّة الصّبر والمهارات التي تتطلّبها تلك الحرفة كما تفاعل البعض منهم مع أبناء الحرفيّات الذين رافقوا أمّهاتهم إلى الورشة ولعبوا معهم وتقاسموا معهم القصص بينما كانت أمّهاتهم منهمكات في العمل.
شكّلت الزيارة فرصة ليطّلع المشاركون على سبل الاستخدام المستدام لموارد الطبيعة وقالت إحدى المشاركات في هذا الصّدد: «لقد انبهرنا بطريقة عمل هؤلاء الحرفيّات فهنّ تستخدمن مثل جدّاتهنّ ما توفره الطبيعة وتحولنه إلى شيء خالد وجميل”.
قبل المغادرة، اشترى العديد من الزوّار، ممّن أعجبوا بجودة وفنّ صناعة الزربية، قطعا كتذكار من رحلتهم حيث لم تقتصر زيارة جمعيّة مساندة حرفيّات خمير على تسليط الضّوء على أهمية الحفاظ على التراث الثقافي بل بيّنت أيضا كيف أن مشاريع مثل مشروع JEUN’s ESS من شأنها أن تخلق تغييرا مستداما من خلال توفير الفرص الاقتصادية للتونسيين.
التجديد مع الخروب في شركة سيراتونيا بمدينة
تواصلت الرّحلة يوم السبت 7 سبتمبر بعد أن انطلق أعضاء شبكة EU Jeel Connect من عين دراهم متّجهين نحو جندوبة بينما شمس الصّباح تغمر بأشعّتها الذهبيّة المناظر الطبيعيّة الخلّابة عبر الطّريق حيث الحقول الخضراء الممتدّة حتّى الأفق تتخلّلها التلال لتبيّن ثراء الرّيف في الشمال التّونسي.
كانت المحطّة الأولى ذلك اليوم في سيراتونيا وهي مؤسّسة صغرى مزدهرة بعثتها، سنة 2019، مهندسة الصّناعات الغذائيّة، مهى الكحلاوي. تختصّ سيراتونيا في تثمين ثمار الخرّوب حيث تعمل مهى وفريقها على تحويل مكوّن قديم قدم التّاريخ إلى مجموعة متنوعة من المنتجات، بما في ذلك مسحوق الخروب والدبس والخل وحتى معجون الرمان وسكر التمر.
فور دخولهم الورشة، استقبلت الزوّار رائحة الخرّوب الطّازج ورافقتهم مهى في زيارة للورشة لتطلعهم على مختلف مراحل عمليّة الإنتاج. من فرز قرون الخروب إلى الآلات المتعدّدة التي تحول الفاكهة إلى منتجات مختلفة، اطّلعت المجموعة على المزج الجيّد بين التقاليد والابتكار الحديث لإنشاء مواد صحيّة فريدة من نوعها.
خلال الجولة، شرحت مهى بحماس نشأة مشروعها: ” يوجد الخروب هنا منذ آلاف السنين، لكن لم يكن من الثمار المحبوبة رغم فوائده الصحية المذهلة”. بدأت سيراتونيا بالتركيز فقط على منتجات الخروب، ثم وسّعنا نطاق نشاطنا ليشمل فواكه أخرى من المنطقة، مما يدل على أن الابتكار يمكن أن يتفاعل تماما مع التراث المحلي.
بفضل الدّعم الذي تلقّته من مشروع Innov’i – EU4Innovation، ازدهرت شركة مهى وقد تلقّت سيراتونيا سنة 2022 قرضا فخريّا بقيمة 30 ألف دينار تونسيّ تمّ توظيفه لاقتناء تجهيزات جديدة ومواد أوليّة لتعزيز نسق الانتاج وخلق فرص للعمل الموسمي لفائدة النّساء الرّيفيّات. يهدف المشروع، الذي يموله الاتحاد الأوروبي وتنفذه مؤسسة خبراء فرنسا، إلى تعزيز ريادة الأعمال والابتكار في المناطق الداخلية في تونس وليست قصّة نجاح مهى سوى شهادة على مدى تأثير المشروع وعمق نتائجه.
أُعجب أعضاء شبكة EU Jeel Connect بشكل خاص بالتزام سيراتونيا بالاستدامة حيث شرحت لهم مهى كيف أنّ شركتها تسعى جاهدة إلى أن تكون خالية تماما من النّفايات من خلال إيجاد طرق مبتكرة لإعادة توظيف المنتجات الثانوية مثل توجيهها نحو إنتاج علف للحيوانات. تتوفّر منتجات سيراتونيا حاليّا في الفضاءات التجاريّة الكبرى وحتى للتّصدير وهي تسير بخطى ثابتة على طريق المزيد من النمو والنجاح.
الحرف المبدعة في مجمع كليم الكاف
أخذت المحطة الأخيرة من الرحلة المجموعة من جندوبة إلى مدينة الكاف التاريخية في المرحلة الرّابعة والأخيرة لزيارة مجمع كليم الكاف بدعم من مشروع تونس الإبداعية المموّل من الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي وتنفذه منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو). يهدف المشروع إلى تعزيز القدرة التنافسية لقطاع الحرف اليدوية من خلال تحديث المعدات وتدريب الحرفيين وخلق فرص جديدة لاكتساح الأسواق.
عند وصولهم إلى مدينة الكاف، استقبلتهم السيدّة العقربي في ورشتها مع مجموعة من 40 حرفيّة محليّة تعملن جميعهنّ لتصنيع المنتجات الحاملة لعلامة “للا منى”. لم تكن الورشة مجرّد فضاء لنسج الكليم التقليدي بل مركزا للإبداع والابتكار حيث تمكّن المشاركون من مشاهدة مجموعة غنيّة من المنتجات المصنوعة يدويّا، من السجاد التونسي التقليدي إلى أغطية الأسرة المنسوجة بشكل جميل والبطانيات والحقائب وحتى سجاد الحمام صغير الحجم.
بينما كانت الحرفيّات منهمكات في العمل تمكّن الشباب من الاطّلاع على البعض من تقنيات النّسيج كما أنّ كلّا منهم صنع له سلسلة مفاتيح من الصّوف عادوا بها إلى منازلهم كتذكار من هذه الرّحلة. كان الجو مفعما بالحيوية والتفاعل إذ لم تكتف الحرفيّات بتقاسم تقنيات النّسيج، بل تبادلن أيضا قصصهنّ مع الزوّار ممّا عمّق أواصر الودّ بين الجميع.
أمّا السيدة، الرّائدة الشّغوفة، فقد قاسمت الزوّار فخرها بالتقدّم الذي أنجزته الحرفيّات تحت إشرافها مشيرة إلى أنهنّ ستشاركن بعد يومين في المعرض الكبير بالكرم، في إشارة إلى معرض ArtiCrea، وهو النسخة الأولى من معرض ينظّمه برنامج تونس الإبداعية. قالت السيّدة بنشوة واضحة تعكس الطّاقة والطّموح المشعين من مختلف أرجاء الورشة: «لقد أعددنا مخزونا جيدا من أفضل المنتجات التي صنعناها حتّى الآن.”
تحدّث رضوان السّعيدي، الممثل الجهوي لمشروع تونس الابداعيّة، عن التأثير العميق للمشروع على منطقة الكاف: “يمثل العمل المنجز هنا قفزة من حيث الجودة والتنوع حيث تعاونا مع مصممين تونسيين وعالميين لمساعدة الحرفيّات على تحديث مجموعاتهن والاستفادة من أسواق جديدة والتّرفيع في هامش الرّبح وتحسين سبل العيش”. كما شدد على أن الصّناعات اليدويّة لا تحافظ على التراث الثقافي فحسب، بل توفر أيضا بديلا أكثر أمانا وربحا للفلاحة بالنّسبة للعديد من النساء في المنطقة.
المحطّة الأخيرة في مدينة الكاف سلّطت الضوء مرة أخرى على الموضوع المتداول على امتداد الرّحلة ألا وهو الريادة النسويّة صلب المجتمع ومحافظتهنّ على التقاليد في سعيهنّ إلى الابتكار والتّجديد إضافة إلى دورهنّ الحيويّ في دفع الاقتصاد المحلي.
غادرت المجموعة الكاف بقلوب تفيض تقديرا وأيادي محمّلة بالمنتجات المصنّعة يدويّا، إيذانا بنهاية مغامرة ملهمة سلطت الضوء على القوة التحويلية للمشاريع الممولة من الاتحاد الأوروبي في جميع أنحاء تونس.