إعادة استخدام المياه، إعادة التفكير في تصميم المدن في لبنان

يونيو 24, 2025
مشاركة في

في لبنان، حيث تشكل ندرة المياه تحديا كبيرا، يساعد مشروع NAWAMED الممول من الاتحاد الأوروبي في وضع تعريف جديد لإدارة المياه وتعزيز الحلول القائمة على الطبيعة في مجال الممارسات الدائرية. من خلال شراكة مع الجامعة الأمريكية في بيروت، أقام المشروع بنية تحتية خضراء لإعادة تدوير المياه الرمادية بطريقة مبتكرة تعتمد على دعم الاستدامة في المناطق الحضرية وبناء الوعي البيئي عبر الأجيال.

الابتكار ينبثق من الخرسانة

 هذا الجدار الذي تنمو فوقه اليوم منظومة بيئيّة عموديّة كان جدارا عاديّا خارج مبيت طلابي في الجامعة الأميركية في بيروت وقد تحوّل اليوم إلى جدار أخضر وخصب تغمره الحياة. وهو لا يقتصر على توفير مشهد ممتع بل هو نظام لمعالجة المياه الرمادية.   تم إنشاء الجدار في إطار مشروع NAWAMED ، المبادرة الأوروبيّة متعدّدة البلدان التي تهدف إلى توفير حلول الاقتصاد الدائري القائمة على الطبيعة في المناطق الحضرية عبر مختلف أنحاء البحر الأبيض المتوسط.

تقول مايا ملحم، مهندسة المناظر الطبيعية ومنسقة المشروع في الجامعة الأميركية في بيروت: “في البداية، لم يكن هناك جدار مثله في لبنان. كانت هنالك جدران خضراء لكن للزّينة فقط. كانت المرة الأولى التي نستخدم فيها النباتات لتنقية المياه “. تتدفّق المياه الرمادية، المياه المستخدمة في المغاسل والحمّامات، نحو البالوعة وتختفي لكن هذا المشروع التجريبي يغيّر مسارها لترشيحها عبر هيكل متعدد الطبقات من النّباتات وركيزة هندسيّة يحاكي عمليات التنقية الطبيعية. بعد معالجتها، تُستخدم تلك المياه لتنظيف المراحيض وري المناطق الخضراء. 

تشرف على تنفيذ المشروع مقاطعة لاتينا الايطاليّة ويتمّ تنفيذه في خمس بلدان (إيطاليا والأردن ولبنان ومالطا وتونس)         وهو يعمل على تعزيز التّعاون عبر الحدود في مجال العلوم والهندسة بينما ساهمت الجامعة الامريكيّة في بيروت بتوفير المعارف المحلية وانخراط الطّلبة والرغبة في التعلم.  قالت مايا ملحم في هذا الصّدد: “يتعلّق المشروع بنقل المعارف، لسنا الجهة صاحبة الاختراع، لكننا أصبحنا الجهة المنفّذة وقمنا بتكييف التصميم مع مواقعنا واحتياجاتنا”.

التعلم بالممارسة، والتعليم بالبيان

بالنسبة للأستاذ ياسر أبو نصر، مدير مركز الحفاظ على الطبيعة ورئيس المشروع في الجامعة الأميركية في بيروت، تتعلّق المبادرة بالتعليم بقدر ما تتعلق بالتكنولوجيا: ” اختار طالبان من طلبتنا إعداد أطروحة الماجستير حول هذا الموضوع  كما شرّكنا معنا طلبة من اختصاص الهندسة المعمارية والهندسة وحتى من فريق الصيانة وتعلم الجميع كيفية بناء هذه الأنظمة ورصدها والحفاظ عليها “. لم تتوقّف المنافع التّعليميّة عند سور الجامعة فقد وجّه فريق الجامعة الأميركية في بيروت الدّعوة لأطفال المدارس وخاصّة منها المدارس الحكومية في المناطق المعوزة، للمشاركة في ورشات عمل تطبيقيّة وبيّن لهم من خلال نماذج بسيطة باستخدام قوارير بلاستيكيّة طريقة عمل الأراضي الرطبة والجدران الخضراء.

قال الاستاذ أبو نصر: “ركزنا على التّوعية وكان الأطفال مندهشين. قال بعضهم إنهم سيجربونها في المنزل مع أفراد عائلتهم. هذا النوع من رد الفعل لا يقدر بثمن “. توافقه مايا ملحم وجهة نظره: “بالنّسبة لي، من أهمّ تأثيرات المشروع هو رؤية الفرح والفضول على ملامح هؤلاء الأطفال بينما كانوا يتعلمون عن الاستدامة وإعادة استخدام المياه “. تمّ دعم جهود رفع الوعي من خلال “حافلة الطبيعة” المتنقلة التي أشرف عليها طالب سابق في الجامعة الأميركية في بيروت، قام بجولة في المدارس لتوعية الأطفال بالمسائل البيئيّة.  قال ياسر أبو نصر: “لم يكن هذا المشروع تقنيا فقط بل كان له بعد اجتماعي وانسانيّ عميق”.

تحديات تخضير المستقبل

لم تكن قصص النجاح خالية من الانتكاسات وقد شرحت لنا مايا ملحم أنّ تنفيذ المشروع في لبنان كان أصعب من تنفيذه في أوروبا مشيرة إلى عدم توفر بعض المواد في لبنان: “كان علينا أن نرتجل وأن نبحث عن بدائل محليّة وأن نختبرها ونكيّفها وقد استغرق ذلك شهورا كما أنّ الجدار الأخضر في حدّ ذاته واجه صعوبات خلال النزاع الأخير عندما توقف الري لمدة أسبوعين حيث لم تحتمل بعض النّباتات الجفاف لكننا أعدناها إلى الحياة وهي اليوم في وضع جيّد وتعمل دون أيّ إشكال.”

تضمنت المبادرة أيضا أرضا رطبة متنقلة مصممة كحل متحرك ومكتفي ذاتيا لمعالجة المياه الرمادية في حالات الطوارئ مثل مخيمات اللاجئين وهي حاليّا مخزّنة بأمان في مبنى الجامعة الأمريكيّة في بيروت. تقول مايا بشأن المشروع: “كانت الرؤية طموحة، تمنيّنا نشر هذا الحلّ في المناطق المحرومة، حتى عند الأزمات. لكن بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي والحرب الأخيرة، لم نتمكن من تحقيق ذلك … حتى الآن!”

رغم مختلف التحديات، فالمكاسب طويلة الأمد واضحة حيث تحسن تصنيف الحرم الجامعي للجامعة الأميركية في بيروت فيما يتعلّق بالاستدامة وأصبح محيط الجدار الأخضر مكانا للدّراسة أو الجلوس أو للقاء الطّلبة بعد أن كان مكانا متروكا.   تقول مايا ملحم بشأنه: “أصبحوا يستخدمون الفضاء المحيط بالجدار كحديقة صغيرة وهذا التحوّل مهمّ رغم أنّه تحوّل محدود.”

يرى ياسر أبو نصر أن النماذج الأولية تشكّل نقاط انطلاق حاسمة: “في بلد يواجه صعوبات جمّة في ترتيب أولويّاته، لن يتوسع نطاق هذا الحلّ بين عشية وضحاها. لكننا بيّنا أنّه حلّ عمليّ وأنه يمكن تطوير استخدام المياه الدائرية من خلال تقنيات منخفضة التكلفة. والأهمّ من ذلك هو أنّ الجيل القادم يشاهد محاولاتنا ويتعلّم منها”  

 

يهدف مشروع  NAWAMED (الحلول القائمة على الطبيعة لإعادة استخدام المياه المنزلية في بلدان البحر الأبيض المتوسط) إلى تغيير الطريقة التي تعتمدها المدن في إدارة المياه. من خلال إدماج أنظمة المعالجة المبتكرة منخفضة التكلفة – مثل الجدران الخضراء والأراضي الرطبة – في المباني والمناطق الحضرية. ويبيّن المشروع كيف يمكن إعادة استخدام المياه غير التقليدية مثل المياه الرمادية على نحو آمن، مما يحدّ من الاعتماد على المياه العذبة. وصل المشروع إلى نهايته سنة 2023، بعد أن استفاد منه أصحاب المواقع التجريبية الثمانية، وأكثر من 450 مهنيّا (مهندسون   ومهندسون معماريّون، إلخ) وشركات البناء وطلبة الجامعات، بالإضافة إلى 50 موظفا يعملون لدى السلطات المحلية والإقليمية. يدخل مشروع NAWAMED في إطار برنامج   التّعاون عبر الحدود في حوض البحر الأبيض المتوسط للآلية الأوروبية للجوار ، المعروف الآن باسم برنامج Interreg NEXT MED للفترة 2021-2027.

 

اقرأ في: English Français