كسر حاجز الصمت: كيف غيّرت معركة مصر ضد تشويه الأعضاء التناسلية للإناث حياة الناس

ديسمبر 4, 2024
مشاركة في

أثر تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية لعقود على حياة ملايين النساء والفتيات في مصر، حيث ساهمت التقاليد الثقافية والمفاهيم الخاطئة حول الواجبات الدينية في استمرار هذه الممارسات. بيد أنّ المبادرة المشتركة بين صندوق الأمم المتحدة للسكان واليونيسف بدعم من الاتحاد الأوروبي تعمل على تغيير هذه السرديّة عبر تمكين المجتمعات المحليّة وتحدي الأعراف الاجتماعية وفسح المجال أمام النّاجيات منها للإفصاح عن صوتهنّ. 

لا يتعلّق البرنامج المشترك بين صندوق الأمم المتحدة للسكان واليونيسف للقضاء على تشويه الأعضاء التناسلية للإناث بوضع حدّ لتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية فحسب بل يتعلّق باستعادة الكرامة والصحة والأمل داخل المجتمعات المحليّة التي ترزح منذ فترة طويلة تحت وطأة هذه الممارسة الضارة.

مساعدة المجتمعات المحلية على إعادة التفكير في تشويه الأعضاء التناسلية للإناث: التحوّل الذي شهده أحد الزّعماء الدّينيّين

لن ينسى عبد المنعم محمد عبد الرحمن أبو النجا، قائد ديني في قرية مصرية صغيرة، الشكّ الذي خامره عندما حضر لأول مرة جلسة عن تشويه الأعضاء التناسلية للإناث: “لقد نشأت على الاعتقاد بأن تشويه الأعضاء التناسلية للإناث واجب ديني. لم يكن أحد يشكك في ذلك، وأنا كرجل، لم أكن أدرك الأضرار الجسدية والنفسية التي تتسبّب فيها تلك الممارسة”.

اليوم، أصبح عبد المنعم في سن السّابعة والستين، صوتا قويا ضد تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، يسعى إلى سد الفجوة بين التقاليد والمنظور الصحّي الحديث وقد قال لنا في هذا السياق: “فتح المشروع أعيننا على حقيقة أن تشويه الأعضاء التناسلية للإناث ليس فقط ممارسة ضارّة بل هي أيضا جريمة”. 

لم يكن المسار الذي سلكه سهلا بل شكّلت رحلته من مؤيد إلى مناصر بارز تحولا جذريا. “عندما حضرت أوّل جلسة شعرت بالذنب. أنا شخصيّة دينيّة وقد جعلني ذلك أعتقد أنّه لا ينبغي تناول مثل هذه المواضيع المخصّصة للنّساء. لكنني تبيّنت أن بعض علماء الدين بحثوا في الموضوع وكشفوا عن أضراره الاجتماعية والنفسيّة والجسديّة ممّا جعلني أراجع الكثير من المفاهيم الخاطئة “.

واجه عبد المنعم مقاومة شديدة من أقرانه، وخاصة الذّكور: ” يشعر الرّجال عموما بالخجل. لذلك يغطّي الكثير منهم وجوههم ويضحك البعض الآخر أو يغمز. يشعر الجميع عموما بالخجل عند التطرّق لهذه المسألة لكنهم بدأوا شيئا فشيئا في قبوله”. 

باستخدام معارفه الدينية ونفوذه، سعى عبد المنعم لتغيير العقليات ومعالجة أحد أكبر العوائق في معركة مصر ضد هذه الممارسة: الاعتقاد بأنها واجب ديني.

مع تجاوز عدد سكان مصر 100 مليون نسمة، كبر حجم هذا التحدّي لكنّ نتائج البرنامج متعدد الأوجه تبعث على الأمل. فقد تقلّص انتشار تشويه الأعضاء التناسلية للإناث ضمن النساء المتزوجات من 92٪ سنة 2014 إلى 86٪ سنة 2021، كما أنّ الأجيال الشابّة تشهد تقدّما أكبر في المجال. يساعد نهج البرنامج في إشراك الزّعماء المحليّين مثل عبد المنعم، الذين كانوا يلازمون الصّمت بشأن هذه المسألة، العائلات على فهم المخاطر ويدعم المجتمعات المحليّة لإعادة النّظر في ممارساتها الثقافية.

يقول عبد المنعم في هذا الصّدد: ” القائد الدّيني مسؤول عن مجتمعه ويستطيع بكلمة واحدة تغيير كلّ شيء”. 

From left to right. Ahlam Abdelatif Samen, Mariam Naeem Mossad, Fahima Hamed Abdelghani, and Maria Labib Sweif, all victims of FGM speak about their experience at the Society of Islamic Center of Seflaq village, an NGO near Sohag in upper Egypt. January 31st, 2015.

أصوات التّغيير: الناجيات تكسرن حاجز الصّمت وتبنين الثقة 

رباب عبد الرّحيم هي إحدى النّاجيات من عمليّة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وهي تعتبر أنّ البرنامج المشترك شكّل اكتشافا غيّر حياتها تماما:” تزوّجتُ في سنّ مبكّرة وانتقلت للعيش في محافظة أخرى ليس لي فيها من أعرف ولم أكن أستطيع بناء علاقة مقرّبة حتّى مع زوجي”. ذات يوم التحقت بحصّة توعويّة حول تشويه الأعضاء التناسليّة للإناث واكتشفت مجموعة دعم غيّرت مجرى حياتها. 

تقول رباب وهي تستذكر تلك الحصّة: ” كلّ ما قيل خلال تلك الجلسة وجد صداه داخلي”. وبعد أن ساعدها الدّعم النّفسي والتدخّلات المجتمعيّة التي يقدّمها البرنامج على معالجة الصّدمة التي كانت تعاني منها، تابعت رباب 10 جلسات أخرى. 

غيّرت التجربة حياة رباب فقطعت وعدا على نفسها بنقل الرّسالة لغيرها: ” تحدّثت مع إخوتي عن ذلك ومع أفراد أسرتي وانخرطت في البرنامج للعمل كمتطوّعة”. 

أصبحت الجلسات تُعرف بعنوان “جلسات رباب”، بعد أن أصبحت رباب شخصية موثوقة في مجتمعها، حيث تتجول في القرية لإشراك النساء في نقاشات حول تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وتشجعهن على حضور جلسات التوعية.

تقول رباب وابتسامة عريضة على محيّاها: ” أصبحت معروفة بين النّاس الذين يسألونني عن تاريخ الجلسات القادمة. أشعر بالفخر لأنّني أنشر رسالة وأساعد على انقاذ الأسر”. 

تبيّن رحلة رباب من الصّمت إلى المناصرة القوّة التي تسكن النّاجيات من هذه الممارسات كما تبرز رغبة المجتمع المحلّي في التّغيير عندما تقوده شخصيّات موثوقة. 

Mansoura Mohamed with her husband Ragab and young daughter near their home in a village near Sohag, upper Egypt on January 31, 2015.

حملات مبتكرة تحول التيار ضد ممارسة متأصّلة بعمق

يقوم نجاح البرنامج أيضا على حماس المتطوّعين على غرار أحمد جميل عبد الوهاب، الذي انخرط في العمل التطوّعي مع البرنامج منذ سنة 2019. بما أنّه من المناصرين الذّكور، يواجه أحمد تحديات فريدة من نوعها عندما يحاول استقطاب الرجال والشبّان لمناقشة مسألة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث التي كثيرا ما يتجنّبونها باعتبارها “قضية خاصّة بالنّساء”.

لكنّ أحمد يلحّ في دعوته ويستخدم التعاطف لمساعدة الرجال على تناول القضية من منظور شخصي: “أقول لهم أنّ التّأثيرات السلبيّة لهذه الممارسة لا تعني فقط النّساء، تصوّروا أنّ الضحيّة هي الأخت أو الزّوجة”. 

باعتماد الأنشطة الرياضية والمسرح التفاعلي وجلسات التوعية، ساهم أحمد في إرساء فهم جديد لهذه المسألة لدى الذّكور: “يعتقد الناس في القرى أننا نحاول تغيير معتقداتهم بينما نحن هنا فقط لنتحادث معهم. البعض منهم يقاوم، لكن البعض الآخر يستمع ويفهم في نهاية المطاف “.

تعكس المقاربة التي يعتمدها أحمد تركيز البرنامج المشترك على الشمولية، الذي لا يقتصر على استهداف النساء بل الرجال وقادة المجتمع المحلّي أيضا. ومن خلال بناء الدعم عبر جميع شرائح المجتمع، حرّك البرنامج ” المياه الراكدة” كما يصفها أحمد، ليُخرج إلى العلن قضايا كان الصّمت يكتنفها.

بالتوازي مع البرنامج المشترك، موّل الاتحاد الأوروبي أيضا “حملة 360 درجة” الشاملة التي أنجزها صندوق الأمم المتحدة للسكان في جميع أنحاء مصر سنة 2023. شملت الحملة منصّات التّواصل الاجتماعي (تيك توك وانستغرام وفيسبوك) ومسلسلا تلفزيونيا دراميا شدّ أنظار المشاهدين في مختلف أنحاء مصر. يتكوّن مسلسل “ورق التوت” من 33 حلقة تتناول قضايا مثل تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وزواج الأطفال والتّنظيم العائلي، مع إضفاء الطابع الإنساني على قصص النساء اللاتي تأثرن بهذه الممارسات.

أثار المسلسل نقاشا وتفاعلا واسع النطاق وتبادل المشاهدون بكثافة أفكارهم وردود أفعالهم عبر منصّات التّواصل الاجتماعي. وقد أوضح إيف ساسينراث، الممثل المقيم لصندوق الأمم المتحدة للسكان في مصر، أن البرنامج لا يقتصر على الجانب التّوعوي بل يسعى إلى بناء “نقاش مجتمعي” في بلد مازال تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية مترسّخا بعمق في أعرافه الاجتماعية والثقافية خاصّة ضمن الفئات الفقيرة. يقول قال ايف سايسنراث في هذا السياق: ” “يُطلع المسلسل المشاهدين على النضالات اليومية للمتضرّرات من تشويه أعضائهنّ التّناسليّة دون الشّعور بأنّهم يتلقّون درسا في الغرض لأنّ المسلسل يعتمد عامل التّواصل العاطفي لإطلاق حوار داخل الأسر في كافّة أنحاء مصر”.

غطّت الحملة سنة 2023 قرابة 30 مليون شخص عبر مواقع التّواصل الاجتماعي و108 ألف مستخدم من خلال موقع الواب. 

 

“جميع الخطوات الصّغيرة مهمّة”

كان للبرنامج المشترك تأثير واضح حتّى في المناطق الرّيفيّة حيث مازلت ممارسات تشويه الأعضاء التناسليّة للإناث بمشاركة الإطار الطبّي تطرح قضية ملحة إذ أنّ الثقة التي يضعها أفراد المجتمعات المحليّة النّائية في الأطباء تضفي في بعض الأحيان جانبا من الشرعية على تلك الممارسات، مما يزيد في تعقيد الجهود الموجّهة نحو مكافحتها والقطع معها.  

يشمل عمل صندوق الأمم المتحدة للسكان تدريب مقدمي الخدمات الطبية وتحديث الأطر القانونية وإشراك القادة الدينيين في التصدّي لهذا الاتجاه. توضح فاطمة أن الهدف يتمثّل في التأكد من أن الأطباء الشبّان وخاصة منهم العاملين في المناطق التي تكون فيها تلك الممارسات منتشرة كثيرا، هم على أتمّ الاستعداد لمقاومة الضغط الاجتماعي والالتزام بالمعايير الأخلاقية.

بالنسبة لأحمد، ليكون المستقبل أفضل لا بدّ من تنويع الأنشطة لإشراك فئات مختلفة: “بعض الناس يحبون مراكز الشباب، والبعض الآخر يتفاعل أكثر مع رواية القصص أو ورشات العمل. نحتاج إلى اللقاء بالنّاس أينما كانوا” مما يعكس التزام البرنامج بالتغيير على المستوى القاعدي. في الوقت نفسه، تحلم رباب بتوسيع نطاق جلساتها لتشمل النساء الأكبر سنا في القرية، ممن لهنّ تأثير أكبر على القرارات العائلية. ” عندما ننجح في الوصول إليهنّ سننجح في القضاء على هذه الممارسة إلى الأبد”.

لقد قدم البرنامج المشترك للقضاء على تشويه الأعضاء التناسليّة للإناث في مصر بين صندوق الأمم المتحدة للسكان واليونيسف بدعم من الاتحاد الأوروبي مثالا قويا على كيف يمكن للتدخلات المستهدفة والمشاركة المجتمعية والحملات الإعلامية المبتكرة أن تتحدى الأعراف الضارة. فعبر العمل مع القادة الدينيين وتمكين النّاجيات من هذه الممارسات وإشراك المتطوعين، نشأت حركة تعمل تدريجيا على تحويل المجتمعات المحليّة في مختلف أنحاء مصر.

في هذا الصّدد يقول عبد المنعم، القائد الدّيني:” حتى لو لم يفهم أضرار تشويه الأعضاء التناسليّة للإناث سوى 10٪ من الجمهور الذي نتوجّه له، فهم على الأقل سيخبرون المزيد من الناس حولهم”. 

يستغرق التغيير وقتا لذلك يعمل صنّاعه خطوة بخطوة على دحض الحجج الثقافيّة المساندة لتشويه الأعضاء التناسلية للإناث وتمهيد الطريق لمستقبل أكثر صحة وأمانا للنساء والفتيات في مصر.

اقرأ في: English Français