يبدو أنّ الكابوس الذي يعيشه التّونسيّون، مثلهم مثل جميع سكّان العالم، قد شارف على نهايته حيث لم تسجّل البلاد منذ يوم 11 ماي/مايو سوى عددا ضئيلا أو معدوما من الحالات وبدأت المعنويّات ترتفع من جديد. وسيسجّل التّاريخ أنّ هذه الأزمة الصحيّة غير المسبوقة قد تسبّبت في ايّام طويلة تحت الحجر الصحّي وفي مخاوف إزاء ذلك الفيروس الفتّاك وفي شكوك فيما سيكون عليه المستقبل لكنّها شهدت أيضا جهود العديد من المواطنين الملتزمين الذين أطلقوا مبادرات تضامنيّة تميّزت جميعها بدرجة عالية من الإبداع والابتكار في تجاوزها للموارد والامكانيّات المحدودة.
تدخل المبادرة المشتركة للجمعيّة التّونسيّة للميكانيك والمدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير ضمن تلك المبادرات وقد تمتّعت بدعم من مشروع الدّعم لتعزيز بيئة ريادة الأعمال والابتكار في تونس (Innovi’I-EU4Innovation المموّل من قبل الاتحاد الأوروبي والذي تشرف على تنفيذه مؤسّسة Expertise France. إزاء جائحة كورونا كان لا بدّ من التفكير بسرعة في حلول عبر مختلف أنحاء العالم وكان تجهيز المستشفيات بالمعدّات الملائمة وتوفير الحماية للإطار الطبّي وشبه الطبّي في مرحلة أولى ثمّ للجمهور العريض من ضمن الأولويّات الملحّة. في هذا السّياق ظهرت فكرة إنجاز أقنعة ومعدّات حماية أخرى وقد قال لنا طارق بوراوي، أستاذ في المدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير ورئيس الجمعيّة التّونسيّة للميكانيك: ” كانت مدرستنا كالعادة سريعة الاستجابة وذلك منذ الأيّام الأولى من الإعلان عن الجائحة؛ اتصلنا بسرعة بالسّلط وتبيّنا النقص الفادح على مستوى معدّات الحماية الخاصّة بالأطبّاء والإطار شبه الطبّي فكوّنا بالتّنسيق مع إدارة المدرسة فريق عمل أوّل ليستجيب إلى هذه الحاجة الملحّة”. تركّب فريق العمل من طلبة ومهندسين وباحثين وحّدوا جهودهم للشروع في إنتاج الأقنعة الواقية وبفضل نجاح هذه التّجربة الأولى لاقت المبادرة المشتركة للجمعيّة التّونسيّة للميكانيك والمدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير صدى لدى مشروع Innovi’I-EU4Innovation الذي بادر بتمويلها.
نشأة الفكرة
رجعت بنا رملة غيث، أستاذة وباحثة في قسم الهندسة الطّاقيّة بالمدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير ومديرة المشروع المكلّفة بمجابهة كوفيد-19 إلى أولى خطوات المبادرة التي انطلقت بعد حوار دار عبر مواقع التّواصل الاجتماعي: ” نتواصل دائما مع عدد من طلبة المدرسة من خلال مجموعات نقاش عبر الفيسبوك لتبادل الأفكار حول ما يدور في المدرسة وبشأن المسابقات الوطنيّة والدوليّة. لكن بسبب فيروس كورونا توقّفت جميع التّظاهرات وكان الطّلبة يبحثون عن طريقة لملء أوقات فراغهم ولتوظيف كفاءاتهم وفور أن أطلقت وزارة الصحّة نداء للمواطنين لدعم جهود الدّولة في مجابهة الفيروس وأخطاره فكّرنا في حلول تتماشى مع الوسائل المتاحة لنا”. انطلقت المبادرة وكانت تعبئة أفراد الفريق على أشدّها وتقول رملة في هذا الصّدد: ” كان حماس الشباب والمدرّسين يدعو إلى الاعجاب فقرّرنا الانطلاق في تصنيع الأقنعة ذات الاستعمال المتعدّد لكن لم تكن لدينا طابعات ثلاثيّة الأبعاد في مخبر المدرسة ومع ذلك لم يثبّط هذا العائق الأوّل من عزائمنا حيث اقترح أحد الشركاء أن يضع على ذمّة الفريق آلة للقطع بالليزر”.
الالتزام التّضامني
بفضل الطّاقة الايجابيّة لجميع أفراد الفريق، أفضت الجهود في غضون 24 ساعة إلى تصميم أوّل قناع بالقطع الليزري. بعد إعداد النّموذج الأوّل كان لا بدّ من فحصه ومراقبته من طرف طاقم طبيّ وقد تولّت ذلك الدّكتورة مهى بن منصور من قسم الإنعاش بالمستشفى الجامعي فطّومة بورقيية. عندها بدأ السباق ضدّ السّاعة لإدخال التّعديلات والتّغييرات الضروريّة للحصول على القناع المطلوب وتقول رملة في هذا الصّدد: ” خلال مرحلة الاختبارات والتّجارب التقيت بالدّكتورة مهى بن منصور 5 أو 6 مرّات في 24 ساعة وهو ما يعكس مدى التزامها تجاه عملنا. إثر ذلك صادق مدير قسم حفظ الصحّة والسّلامة في المستشفى على تصميم القناع وبعد أربع تجارب كانت التّجربة الخامسة ناجحة وتبيّن أنّ النّموذج مطابق للمواصفات المطلوبة”.
النّجاح الأوّل
في المرحلة الموالية، كان لا بدّ من وجود شريك صناعي يتولّى إنتاج كميّات كبيرة من الأقنعة وقد تمّ فعلا تصنيع 2500 قناع خلال أسبوع واحد وتمّ توزيعها على الإطار الطبيّ في الجهة وفي المناطق المجاورة بفضل مدّ تضامنيّ رائع من جانب العديد من الشركاء.
بعد هذا النّجاح الأوّل كان لا بدّ من تكثيف الجهود أكثر لأنّ الاحتياجات كانت متعدّدة وإزاء هذا الوضع اقترح محمّد نافع، أستاذ في المدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير، على أفراد الفريق تغيير طريقة العمل: ” نحن في حاجة إلى عدد أكبر من الأقنعة فلماذا لا نحاول طريقة الحقن البلاستيكي؟” استجاب زميله رمزي فرج لهذا النّداء مباشرة وأنجز نموذجا مصغّرا للقالب المطلوب وتواصل أيضا مع أحد الصّناعيّين الذي أعرب عن استعداده لتصنيع المنتج وفي أقلّ من أسبوع انطلق العمل لإنتاج قرابة ألف قطعة في اليوم الواحد.
المرحلة 2
فتح نجاح هذه العمليّة الطّريق أمام العديد من الطّلبات الأخرى فإضافة إلى الأقنعة كان الإطار الطبّي وشبه الطبيّ في حاجة للبدلات الواقية وحسب رملة غيث ” فالمدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير هي المؤسّسة الجامعيّة الوحيدة التي تعدّ قسما لهندسة النّسيج واعتبرنا أنّه من واجبنا أن نستجيب إلى هذا الطّلب”.
رغم المصاعب التي واجهها الفريق، تمّ إطلاق المرحلة الثانية من المبادرة في وقت قياسيّ بالشراكة مع عدد من الصناعيّين والمزوّدين ولجنة الأزمة صلب وزارة الصحّة وكانت تتعلّق بالمواصفات الخاصّة بالأقمشة وتفصيل البدلات وانطلق الإنتاج بعد انجاز مختلف اختبارات المطابقة.
الطّلبات و الاحتياجات المتعدّدة
إزاء هذا النّجاح الثاني، تضاعفت الطّلبات وإلى جانب الأقنعة والبدلات الواقية طُلب من فريق المبادرة المشتركة للجمعيّة التّونسيّة للميكانيك والمدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير أن يحاول انتاج مقصورات الاحتضان والأقنعة الكاملة وصناديق التّحليل أو حتّى ممرّات التّطهير. تمّ تكوين فريق ثاني ليعمل على تصميم وتصنيع نظام للمساعدة على التنفّس بالتّعاون مع أطبّاء مستشفى فطّومة بورقيبة وكليّة الطبّ بالمنستير.
كان تحدّيا صعبا لكن حجم المهمّة وتعقيدها لم يزد المتطوّعين سوى عزما حيث التحق العديد تلقائيّا بالمبادرة من بينهم أطبّاء ومهندسون وطلبة في حركة تضامنيّة جميلة جلبت انتباه فريق مشروع Innovi’I-EU4Innovation الذي كان يبحث عن مبادرات مبتكرة في مجال محاربة الفيروس وإثر مبادلات مثمرة بين الطّرفين أُتّخذ القرار بتمكين المبادرة من منحة تصل قيمتها إلى 20 ألف يورو لتمويل مختلف محاور العمل على مواجهة كوفيد-19.
إضافة إلى الأقنعة والبدلات الواقية ونظام المساعدة على التنفّس، يعمل فرق المبادرة المشتركة للجمعيّة التّونسيّة للميكانيك والمدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير على تصميم وتصنيع مقصورات تعقيم ونظام آليّ للتّعقيم كما تتّجه الجهود نحو تصميم وصناعة ربوت للمساعدة الطبيّة لفائدة المهنيّين في القطاع الصحّي أو المصابين الذين يقضّون فترة الحجر الصحّي الاجباري.
مشروع Innovi’I-EU4Innovation: البحث عن الأفكار والمبادرات المبتكرة
بفضل المنحة التي وفّرها مشروع Innovi’I-EU4Innovation تمكّنت المبادرة المشتركة للجمعيّة التّونسيّة للميكانيك والمدرسة الوطنيّة للمهندسين بالمنستير من تمتين عملها وبعد النّجاحات التي حقّقتها تتطلّع اليوم إلى إنجاز أعمال واعدة باعتماد حلول مبتكرة ومستجدّة لمقاومة الفيروس على نحو فعّال أو ايّ جائحة أخرى قد تنتشر في المستقبل كما يواصل مشروع Innovi’I-EU4Innovation بحثه عن مبادرات أخرى تضاهي هذه المبادرة في درجة الابتكار والتّجديد.
مشروع Innovi’I-EU4Innovation هو مشروع يموّله الاتحاد الأوروبي وتشرف على تنفيذه مؤسّسة Expertise France بهدف تحسين الخدمات المتوفّرة للمؤسّسات النّاشئة ولروّاد الأعمال في تونس من خلال دعم هياكل المرافقة في مجال ريادة الأعمال والابتكار ومرافقة مسار اعتماد إطار تنظيمي وتمويلي ملائم لريادة الأعمال المبتكرة وللمؤسّسات النّاشئة وتثمين البيئة التّونسيّة لريادة الأعمال والابتكار على المستويين الوطني والدّولي.