“أنا أيضا أريد العودة إلى بيتي لكنّني أخشاكم!” تلك هي الكلمات المثقّلة بالمعاني التي اختتم بها الممثلون المصطفّون على الرّكح مسرحيّة “مروّح” وهم يوجّهون أصابع الاتّهام إلى الجمهور. لا يدخل هذا العرض المسرحيّ في خانة العروض المعتادة حيث قدّمه عدد من الشباب المودع في مركز إصلاح القاصرين الجانحين بمدينة المروج وتمّ إنتاجه في إطار مشروع “تجليّات مودع” بدعم من تفنّن-تونس الابداعيّة وهو مشروع لتعزيز القطاع الثقافي مموّل من الاتحاد الأوروبي في تونس.
لم يكن حضور الجمهور مكثّفا في قاعة المركز الثقافي المسعدي بمناسبة اليوم العالمي للمسرح الموافق ليوم 27 مارس وكان أغلب من جاء لمشاهدة عرض “مروّح” من العائلات أو الأصدقاء الذين قدموا لتشجيع ابن أو أخ أو قريب أمّا الرّكح فقد اعتلاه تسعة قصّر يتقمّصون شخصيّتهم لسرد واقع شباب الأحياء المحرومة دون تزييف ولا تزوير من نقص الموارد وغياب التّأطير العائلي واستهلاك المخدّرات وتعاطي شتّى أنواع الاتّجار غير المشروع وصولا إلى السّجن. بكلمات بسيطة لكنّها مفعمة بالصّدق عبّر الشباب عن ندمهم وعن تطلّعاتهم لاسترجاع حرّيتهم المفقودة ولكن أيضا للقاء أقاربهم واصدقائهم وللرّجوع إلى منازلهم وللنّوم في فراشهم حتّى إن لم يكن مريحا جدّا وطرحوا واقعا مريرا تتخلّله نبرات بريئة تهتزّ لها القلوب ويختلط معها ضحك المتفرّجين بدموعه. في نهاية العرض لم يتوقّف الحاضرون عن التّصفيق تعبيرا عن اعجابهم بأداء الشباب. في تلك الأجواء قال أحدهم وهو في غاية التأثّر: ” عندما سمعت تصفيق الجمهور شعرت أنّني إنسان صالح”. كان الفخر واضحا في عيون كافّة المساهمين في إنجاز ذلك العمل الفنيّ غير المعتاد ومن بينهم زياد غنانية، المشرف على مشروع “تجلّيات مودع” الذي يعتبر أنّ هذا العمل يمثّل بالنّسبة له ولفريقه تتويجا لحلم جماعيّ صنعوه بإرادتهم وصبرهم والعديد من التّضحيات.
الثقافة كملاذ
لطالما راودت فكرة إدخال الثقافة إلى المؤسّسات السجنيّة لتكون ملاذا لمن سُلبت حريّتهم أستاذ المسرح، زياد غنانية وفي سنة 2016 بلغه خبر تنظيم ورشات للإبداع الفنّي داخل السّجون التّونسيّة كما أنّ أحد أصدقائه، شاعر وسجين سابق، أعلمه بأنّ الثقافة تحمل إلى المسجونين جرعة ثمينة من الهواء النقيّ وأنّ الطّلب على الأنشطة الثقافيّة هامّ جدّا داخل السّجون. كانت قناعات زياد متينة ومنها انطلق لتصميم مشروع “تجليات مودع” وتحصّل سنة 2017 على تمويل أوّل من تفنّن-تونس الابداعيّة. أشرفت جمعيّة رؤى للثقافة والفنون على العمل الدّؤوب للفريق الإداريّ ولعدد من الميسّرين والمرافقين وفي سنة 2019 وبفضل مثابرة الجميع رأى أخيرا المشروع النّور وتحصّل على تمويل جديد من تفنّن-تونس الابداعيّة لينطلق في العمل في العديد من المدن. “تجليّات مودع” هي ثمرة التّعاون المتين بين عدد من الأشخاص وجدوا ضالتهم في المسرح ونزّلوا الانسان والثقافة في محور التّغيير مع مواصلة نضالهم من أجل مدّ الجسور بين السّجن والمجتمع. في هذا الصّدد قال لنا رئيس فريق تفنّن، داميان هيلي: ” نحن في تفنّن-تونس الابداعيّة سعداء بالمساهمة في هذه الحركيّة التّونسيّة التي تعترف بقيمة السّجين و المجتمع المدني و المؤسّسات.“
الالتزام الجماعي
بفضل التزام الجميع تمّ انتاج 21 مسرحيّة في إطار مشروع “تجلّيات مودع” عرضت جميعها في إطار مهرجان ” مسرح الأمل” الذي تشرف عليه الادارة العامة للسجون والإصلاح بالشراكة مع وزارة الشؤون الثقافيّة ووزارة العدل. قبل ذلك عمل فريق يتكوّن من أساتذة في المسرح وعدد من أعوان السّجون على تنشيط ورشات مسرحيّة لشهور داخل 11 مؤسّسة سجنيّة للرّجال و5 سجون للنّساء و5 مراكز لإصلاح القاصرين الجانحين شارك فيها 118 سجينا من بينهم 34 شابّا عملوا في إطار هذا المشروع الفنّي. رغم أنّ البعض استرجعوا حريّتهم أثناء المشروع إلّا أنّهم أصرّوا على المشاركة في العروض كما أنّ عددا من المسجونين السّابقين حضروا في العرض وحملوا معهم باقات من الورود لينقلوا من خلالها رسائل أمل لأصدقائهم وكأنّهم يقولون لهم:” دوام الحال من المحال” وكأنّ بالزّمن يتوقّف خلال أداء الفنّانين وكأنّ بالأوضاع عاديّة لولا أجهزة اللاسلكي والأصفاد التي يخفيها أعوان السّجن في جيوبهم الخلفيّة ممّا يشير إلى وجود خيط رفيع يفضل بين الرّكح والجمهور يُعرف تحت اسم الحريّة.
تفنّن-تونس الابداعيّة
تفنّن-تونس الابداعيّة هو برنامج لتعزيز القطاع الثقافي التّونسي مموّل من الاتحاد الأوروبي في إطار برنامج دعم قطاع الثقافة في تونس لوزارة الشؤون الثقافية. يتمثّل المشروع في تعاون ضمن شبكة الاتحاد الأوروبي للمعاهد الوطنيّة للثقافة (EUNIC) ويتولّى تنفيذه المجلس الثقافي البريطاني. يهدف المشروع أساسا إلى النّهوض بالتنوّع الثقافي التّونسي والنّفاذ إلى الثقافة على المستوى المحلّي والوطني والدولي كما يعمل على دعم حريّة التّعبير والابداع خاصّة ضمن الأجيال الصّاعدة والدّفع نحو إضفاء الطّابع المهني على الحرف الثقافيّة.
الاتّحاد الأوروبي والثقافة
الثقافة متواجدة في العديد من سياسات الاتحاد الأوروبي على غرار التّعليم والبحث والسياسة الاجتماعيّة والتّنمية الجهويّة والعلاقات الخارجيّة حيث يعتمد الابداع والنّهوض بالثّقافة في عالمنا المتّسم بالعولمة والتّفاعل على وسائل الاعلام والتكنولوجيات الرقميّة لذلك يحثّ الاتحاد الأوروبي على التّعاون في مجال الثقافة بين السّلط الوطنيّة والمنظّمات الدوليّة.