في قلب حديقة تمسح 120 هكتارا يوجد القصر الذي يمثّل جزء من الحرم الجامعي حيث ينطلق 130 طالبا في رحلة تعليمية تغير مجرى حياتهم. يحمل هذا العالم السحري اسم كلية أوروبا في ناتولين (بولندا) وهو معهد جامعيّ للدراسات الأوروبية لا تقلّ قصّة ثراء عن ثراء وتنوّع الدّروس التي يقدّمها لطبته.
تم إنشاء الحرم الجامعي بناتولين سنة 1992، أثناء إعادة دمج القارة الأوروبية بعد سقوط الستار الحديدي. يطلق العديد من الطّلبة تسمية “الغابة السحرية” على ذلك المكان الذي يمكّنهم من تجربة أكاديمية فريدة من نوعها.
تعرض كلية أوروبا في ناتولين برنامجا واحدا يتمثّل في الماجستير المتقدم في الدراسات الأوروبية متعددة التخصصات لفائدة طلبة من خلفيّات شتّى تشمل القانون والاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية والتاريخ والصحافة واللغات الأجنبية لدراسة تعقيدات الاتحاد الأوروبي.
أصوات من الحرم الجامعي
حدّثتنا الطّالبة التّونسيّة سلمى السافي عن طبيعة البرنامج متعدد التخصصات قائلة: “تسمح الدراسات متعددة التخصصات باكتشاف تقاطع المحاور والمواضيع التي تغطي الواقع المعقد للاتحاد الأوروبي”. تعتبر سلمى الكلية مساحة لاكتشاف الذات والنمو الفكري ورسم مسار لمستقبل أفضل.
فارس الوسلاتي، هو أيضا تونسي ولديه خلفية متعددة التخصصات إذ حصل على الاجازة في المالية والماجستير في العلوم السياسية والحكم الديمقراطي. قال فارس بشأن قراره الالتحاق بكليّة أوروبا: “لا يقتصر هذا البرنامج بدوراته المتنوعة التي تركز على الجوار والتكامل الأوروبي والأبعاد الداخلية والخارجية للشؤون الأوروبية، باجتذاب اهتمام الطّلبة التونسيين والمتوسطيين، بل هو يمنحهم أدوات لتمكينهم”.
أمّا الجزائريّة، صابرينا بوخرصة فقد جلبت معها خبرة ميدانية ثريّة في القطاع التنموي وهي تقول في هذا الصّدد: “كنت أعرف المجال، لكنني أردت تحسين معارفي والانتقال بها إلى مستوى أعلى من خلال فهم طريقة صنع السياسات وكيفية التّعبير عن ذاتي تجاهها فتبيّنت أنّ كليّة أوروبا هي المكان المناسب لذلك”. تسعى صابرينا إلى رفع مستوى فهمها للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي وسد الفجوة بين المعارف العملية والعمق النظري.
نور بن مفتاح هي طالبة حقوق تونسية وأول تونسية وثاني عربية تُنتخب لتمثيل الطّلبة داخل كليّة أوروبا، ترى في هذا البرنامج امتدادا طبيعيّا لاهتماماتها. درست نور الحقوق وهي تناصر لفائدة الدراسات متعددة التخصصات التي ليست متاحة بسهولة في بلادها
تعزيز النموّ الشّخصي: رحلة تتجاوز المسار الأكاديمي
تحمل كليّة أوروبا في ناتولين التزاما واضحا تجاه التميز الأكاديمي وحسب فارس تندرج جودة التّعليم ضمن أفضل ما يوجد حول العالم وهو ما يشير إلى المستويات الاستثنائية للطّلبة في تلك الدّوائر الدّيناميكيّة. أردف فارس قائلا: “للتفوّق نحن في حاجة لبيئة تعاونية تتكوّن من نظراء رفيعي المستوى “.
المسار الأكاديمي في كليّة أوروبا صعب ومحفز ويتميّز بنسقه السّريع. كما يتمتّع الطّلبة بفرصة فريدة من نوعها لانتقاء المواد التي يريدون تلقّي دروس فيها وتوجيه مسار متعدد التخصصات ليتماشى مع احتياجاتهم واهتماماتهم.
تعدّ الكلية بكلّ فخر هيئة تتكوّن من أساتذة مرموقين لتميّزهم الأكاديمي وخبرتهم الميدانية حيث يمزجون المعلومات النظريّة بالتّطبيق على أرض الواقع. أثنت صابرينا على تميّز اساتذتها بقولها: ” الأساتذة متميزون حقا حيث نشعر بلمستهم الخاصّة وبخبرتهم التي تكتنف الدّروس والدورات”.
كانت سلمى طالبة في اختصاص إدارة الأعمال ثم بدأت تهتمّ بالتّاريخ وهو أمر غير متوقّع في الدّوائر الأكاديميّة وقد شرحت لنا ذلك بقولها: “لم أدرس التاريخ في الجامعة من قبل وهو ما جعلني أفكّر في مدى أهمية تاريخ البلدان”. تجاوز إدراك سلمى لأهميّة التّاريخ الإطار الدّراسي عندما أدّى الطّلبة زيارتهم الميدانيّة الأولى إلى جنوب بولندا وهي منطقة عرفت الكثير من الاحداث التّاريخيّة خاصّة في علاقة بالحرب العالمية الثانية: “زرنا العديد من المتاحف والقلاع وكانت الزّيارات مثرية للغاية “.
تحدثت نور عن تجربتها المذهلة عندما تبيّنت أوجه التشابه الثقافي خلال الرحلة. “لدينا الكثير من القواسم المشتركة مع أوروبا الوسطى والشرقية. نحن نركز بشدة على أوروبا الغربية ممّا جعلنا لا نرى تلك النّقاط المشتركة، لكنني أعتقد أننا أقرب ثقافيا إلى هذا الجانب من الخارطة “. وافقتها سلمى ذلك الاحساس مؤكدة على التحديات المشتركة بين بولندا وتونس: ” لذلك علينا أن نفكّر في الحلول معا”.
فيما يتعلق بالنمو الشخصي، تعتبر نور أن بضعة أشهر في كليّة أوروبا كفيلة بأن تحقّق لكلّ طالب الكثير من التطوّر والنموّ الشخصيّ: “أعتقد أنّ أسبوعا واحدا في كليّة أوروبا يضاهي شهرا من النمو”. حدّثتنا نور أيضا عن فرحتها عندما شهدت تساقط الثلج لأوّل مرّة في حياتها ممّا يبرز مزيج النمو الشخصي والتجارب الجديدة والممتعة الذي توفّره الكليّة.
كليّة أوروبا: فضاء متنوّع ونابض بالحياة
تنبض كليّة أوروبا في ناتولين بالحياة والتنوع في إطار يغمره التّاريخ الغنيّ والتميّز الاكاديميّ حيث يجيد أغلب الطّلبة العديد من اللغات وخاصّة اللغتين الإنجليزية والفرنسية لأنّ ذلك من ضمن الشّروط الأوليّة للدّراسة في الكليّة. تقول صابرينا في هذا الصّدد: “جميعنا تقريبا يتحدّث أكثر من ذلك فعلى سبيل المثال، الإنجليزية هي لغتي الخامسة! “
تقيم الكلية سنويّا أياما ثقافية يحتفل الطّلبة خلالها بثراء ثقافاتهم وتقاليدهم ومأكولاتهم. وقد تجاوز الطّلبة الذي ذكرناهم في قصّتنا حدود بلدانهم وتوحّدوا لتنظيم يوم خاصّ أطلقوا عليه تسمية “يوم شمال إفريقيا” وعرضوا خلاله الثقافات الحية لبلدانهم واحتفلوا بهويتهم المشتركة في شمال إفريقيا بقطع النّظر عن جنسيّاتهم المختلفة.
بفضل التّماسك الذي يسود الكلية، برزت بيئة فريدة من نوعها مكّنت الروابط البشرية من الازدهار حيث يتعلم الطّلبة معا صلب حرم جامعي جميل ويشاركون في الأنشطة من النّقاشات الحماسية إلى الوجبات المشتركة وحتى العروض التعاونية وهو ما وصفته صابرينا بقولها:” تسمح هذه البيئة بنشأة نوع من التّرابط والقرب فيما بيننا” كما أكّدت أن تجربة الحياة في الحرم الجامعي لا مثيل لها ولا بديل عنها: “الروابط الإنسانية ليس لها ايّ ثمن”.
حدّثنا فارس في نفس السياق عن حرارة الإحساس بالانتماء إلى ذلك الحرم الجامعي الصغير وأكّد أنّ ما يميز الكلية حقا هو التفكير النقدي الذي يترعرع ضمن الطّلبة: “ما يميّز الكليّة هو ثقافة التّفكير النقدي لدى الطّلبة. يشكّل النقد الإيجابي أسلوب حياة وهو يوفّر فرصا لا حصر لها لتطوير فهم عميق للمجال الأوروبي والعالم خارجه “.
إضافة إلى ذلك، ثمّنت سلمى البعد الدولي لتعليمها حيث يكتسي ذلك أهميّة بالغة في زمن العولمة: “حتى لو بدا لنا أنّ بعض المشاكل تخصّ بلدا دون غيره، لا يمكننا حلها إلا على مستوى العالم لأن كافّة الأشياء مترابطة فيما بينها مثل الاحتباس الحراري مثلا.” بالنسبة لسلمى، تضطلع المؤسّسات مثل كليّة أوروبا بدور حيوي في الجمع بين قادة المستقبل وسد الهوّة بين وجهات النظر والأفكار ورفع التحديات المترابطة التي تواجه العالم.
أبرزت صابرينا ذلك الجانب بقولها: ” الروابط الإنسانية التي نبنيها الآن ستتواصل بعد عودتنا إلى بلداننا والعمل في مواقع صنع القرار” وقالت نور في ذات السّياق: “يوجد خرّيجو الكلية في كل مكان حيث يستطيعون مدّ يد المساعدة والشّهادات التي تسلّمها الكلية لها وزن كبير في سوق العمل “. بالتالي، لا تقتصر الكلية على أن تكون مكانا للتعلم بل هي حاضنة للتّواصل مدى الحياة وللنموّ الشخصي كما أنها بوابة لمستقبل تستمرّ فيه الروابط التي نُسجت داخل جدرانها في تشكيل صناع القرار والقادة في جميع أنحاء العالم.
المنح الدّراسيّة: بوّابة للتحوّل
في سعيها نحو تحقيق التميز الأكاديمي والتعاون العالمي، تمدّ كليّة أوروبا يد المساعدة من خلال توفير منح دراسيّة. بالنسبة للطّلبة من دول السياسة الأوروبيّة للجوار، تضمن تلك المنح الدراسية الا تحول العراقيل الماليّة دون طلب المعرفة والعلم حيث تغطي المنح الشاملة رسوم الدّراسة والإقامة والوجبات وكلفة السفر. قرابة 70٪ من طلبة الكليّة هم من المستفيدين من المنح الدراسية وهو ما يبيّن التزام الكليّة بالشمولية ونفاذ الجميع للتّعليم.
تؤكد سلمى، الحاصلة على منحة دراسية، على التأثير العميق للمنحة على حياتها: “أنا لا أستطيع تحمل تكاليف الكلية وكذلك الحال لمعظم الطّلبة من بلدي، لذلك فالمنحة هي عنصر يغيّر كامل قواعد اللعبة بالنّسبة لنا”. ذلك ما يجعل من المنح الدّراسيّة حافزا للتطلعات التي كانت ستظلّ في خانة الأحلام المستحيلة. عبّرت صابرينا عن شعور عميق بالامتنان والوعي بالتأثير الفوري والدائم للمنحة على حياتها: “أشعر بأنني محظوظة جدا لوجودي هنا. نادرا ما ندرك أنّ الأشياء التي نقوم بها سيكون لها تأثيرا عميق على حياتنا في الوقت الحاضر وعلى المدى البعيد. هذه واحدة من تلك اللحظات التي أدرك فيها جيّدا أن الأشياء التي أتعلمها والأشخاص الذين أتعامل معهم حاليّا سيمتدّ تأثيرها في حياتي في الحاضر وفي المستقبل أيضا”.
كليّة أوروبا في ناتولين ليست مجرد مؤسسة أكاديمية بل هي فضاء للتحوّل وبوتقة تنصهر فيها الثقافات المتنوعة وأرض خصبة لقادة المستقبل. يحمل الحرم الجامعي في ناتولين الواقع بين أحضان الطّبيعة تاريخا عميقا ليكون بذلك أفضل مهد للتعلم المكثف متعدد التخصصات. من التبادل الثقافي خلال الأيام الثقافية إلى التجارب الغنية بمناسبة الرحلات الدراسية، تخلق الكلية بيئة ملائمة لإنشاء الروابط الإنسانية وتبادل الأفكار وتوسيع نطاق الأفكار. وتعد المنح الدراسية، التي تشكّل حجر الزاوية في مهمة الكلية، عنصر مساعدة قويّ لكسر الحواجز الماديّة المالية وفتح الأبواب أمام العقول الطموحة من خلفيات متنوعة.