أطفال يجنّدون أنفسهم من أجل الحريّة

أكتوبر 19, 2018
مشاركة في

مدرسة الكاريكاتور في صفاقس

هم لم يتجاوزوا بعد طور الطّفولة ولكنّهم مبدعون ويتّقدون حيويّة. فمنذ التحاقهم بمدرسة الكاريكاتور تمكّن هؤلاء التّلاميذ ( 36 تلميذًا يتراوح سنّهم بين 14 و18 سنة) من تجويد ريشتهم وإطلاق العنان لخيالهم وهم يحملون نظرة ناقدة وساخرة على تونس وعلى العالم يعبّرون عنها  من خلال استخدام الأقلام أو الألوان المائيّة والزيتيّة. برز من ضمن المجموعة ثلاثة أطفال جنّدوا أنفسهم من أجل الدّيمقراطيّة والحريّة المكتسبة حديثا في المناطق الدّاخليّة بعيدا عن دائرة الضّوء.

 مدرسة الكاريكاتورتّابعة لبرنامج تفنّن-تونس المبدعة المموّل من قبل الاتحاد الأوروبي (4,7 مليون يورو) والذي يسهر على تنفيذه EUNIC شبكة المعاهد الوطنيّة للتراث بالتّعاون الوثيق مع وزارة الثقافة في إطار البرنامج المخصّص لتنمية الثقافة في تونس بقيادة تفنّن –تونس المبدعة بتمويل أوروبي (2,4 مليون يوروعلى الفترة الممتدّة من فيفري/فبراير 2017 إلى ماي/مايو 2019).

 

الحماسة والشّغف

وُلدت أنس التّومي، 16 سنة، في جبنيانة وهي تلميذة في السّنة الثانية علوم بمعهد طينة من ولاية صفاقس وقد شرعت في التّصوير منذ سنّ الثالثة وعلّمتها أمّها فنّ الرّسم على الحرير لتكتشف لديها شغفها بالألوان لذلك شجّعتها على رسم المشاهد الطّبيعيّة والوجوه بالألوان المائيّة والألوان الزيتيّة وحثّها والداها أيضا على الالتحاق بنادي التّصوير لتتحكّم أكثر في تقنية استخدام الفرشاة فكيف انتقلت أنس يا ترى من الرّسم إلى الكاريكاتور؟

تقول أنس: «اطّلعت عبر الفيسبوك على إعلان عن تدريب تنظّمه مدرسة الكاريكاتور وفي البداية لم يكن من السّهل أن أنتقل نحو هذا النّوع من الفنّ لكن بفضل التّأطير الذي قدّمه لي أساتذتي تعلّمت كيف أصبّ كافّة أحاسيسي في رسم واحد”.

إثر التّدريب الذي حضرته في مدرسة الكاريكاتور بدأت في متابعة الأخبار وشرحت لنا ذلك بقولها:” لا بدّ من الولع بالصّحافة ومن متابعة الأخبار كي أصبح رسّامة جيّدة في الصّحافة ثمّ لا بدّ أن أحسّن تقنياتي بطريقة متواصلة” وهي تشعر اليوم بأنّها قويّة وتمكّنت من اكتساب تقنيات تخوّل لها منافسة الرسّامين المشهورين إذ تشير تقاسيم وجهها ونظرتها الثاقبة إلى ثباتها ودرجة ثقتها بنفسها وكذلك إلى شعورها بمدى الاحترام الذي تحظى به ضمن زملائها.

منح الرّسم الكاركاتوري أنس طموحات جديدة في حياتها وفهي تأمل اليوم في أن تصبح صحفيّة كما فتح أمامها آفاقًا جديدة إذ بدأت بعد في التّعامل مع مجلّة WAZ المغربيّة التي تتوجّه للأطفال.

 

منطقة في حاجة ماسّة للفنّ

انتفع عمر النفّاتي، 14 سنة، تلميذ بالسّنة التّاسعة من التّعليم الأساسي في عقارب من ولاية صفاقس هو أيضا من مشروع مدرسة الكاريكاتور وقد وجد عمر ملاذه في التّصوير الذي يخصّص له كافّة أوقات فراغه لأنّه يعيش في منطقة تفتقر إلى الأنشطة.

ينحدر عمر من وسط محدود الامكانيّات فأمّه ربّة بيت وأبوه يدير محطّة لغسل السيّارات وقد كشف لنا بأنّ اتّجاهه نحو فنّ الرّسم الكاريكاتوري كان بسبب رغبته “في نقل رسالة” فهو لا يضيع وقته حتّى وإن لم يكن له ما يفعله ففي الليل عندما يذهب للنّوم يحتفظ إلى جانب فراشه بقلم وبورقة للتّصوير وقال لنا:” عندما أستيقظ من نومي ليلا وتمرّ بذهني فكرة لا أتوانى عن رسمها على الورقة”.

بفضل مشروع مدرسة الكاريكاتور مكّنه التّدريب التّقني من قطع أشواط نحو التحكّم في هذا الفنّ وهو يرنو إلى المساهمة من خلال فنّه في تحسين ظروف حياة والديه وقد أسرّ لنا بأنّ الكاريكاتور صنع شخصيّته إلى درجة جعلت والده، الذي يعرف أنّ ابنه متيّم بالرّسم، يمتنع عن طلب مجيئه إلى المحطّة في أوقات فراغه لمساعدته على غسل السيّارات.

 

القوّة الكامنة في التّفاصيل

ممّا أثار دهشتنا مع عمر هو أنّه يتذكّر كافّة الملابسات التي تحيط بكلّ رسم أنجزه إذ يمكنه أن يروي القصّة الكاملة التي ترافق مولد أعماله و أمام تعجّبنا من قدرته على تخزين جميع تلك التّفاصيل في ذاكرته قال لنا عمر :” ذاكرتي حادّة و تلك هي قوّة الفنّان فيكفيني أن أنظر إلى وجه لمدة 10 أو 15 دقيقة أو أن أتمعّن في شيء ما مرّة واحدة لأسترجع جميع العناصر التي تكوّنه عندما أشرع في رسمه” و لذلك يُقبل محمّد في أوقات فراغه على تصفّح المجلّات و الجرائد “لتسجيل” التفاصيل التقنيّة و هو على حسب تعبيره يحاول انجاز هذا العمل “غير الجديّ” بكلّ جديّة و تتمثل مصادر الهامه في الأخبار كما ينكبّ على مستجدّات الفنون و على عمل الفنّانين كما أنّ محمّد يستطيع الرّسم على المباشر خلال المؤتمرات و الحوارات و يعتبر أنّه لا بدّ الآن أكثر من أيّ وقت مضى من أن نسخر من  المسايرة و الامتثال الطّاغيان بطريقة  تلقائيّة على وسائل الاعلام تحت مفعول المحاكاة و الاجماع.

رسوم عنيفة وجريئة

من جانبها، تقول فريال حمدي، 16 سنة، تلميذة بالسّنة الثانية علوم بمعهد العامرة من ولاية صفاقس أنّها استجابت إلى نداء الكاريكاتور الذي كان يختلجها وأكّدت لنا بأنّ “رسومها تتّسم بالعنف وبالجرأة” مضيفة “لم أرسم أبدا انطلاقا من فكرة غير فكرتي” كما اعترفت فريال بأنّها تدفع حدود السّخرية بعيدا دون أن تمسّ بالحياة الخاصّة للنّاس وتؤكّد أنّها لا تريد أن تلحق أيّ ضرر بالغير ” فأنا لا أقصد ذلك أبدًا”.

نظرة فريال حادّة وحاجباها معقودان ممّا يشير إلى قوّة عزمها و هي تعتبر أنّ دورها “كمنتجة للرّسوم” يتمثّل في الحفاظ على مجال للنّقد و على أخذ  مسافة من المعالجة الاعلاميّة للأحداث وقد أكّدت لنا فريال أنّه ” لابدّ من احترام هذا النّوع الفنّي و من تنزيله في المكانة التي تناسبه ضمن مشهد الفنون التّشكيليّة لأنّه كان فنّا مغمورا خلال عشرات السّنين” و هي تعتبر أنّ الكاريكاتور غيّر حياتها إذ تشعر الآن بالنّضج و الطّمأنينة كما أنّها تتابع بفضله الأخبار أكثر من أقرانها و تقول في هذا الشّأن :” أصبحت ملمّة بالقضايا العادلة و أكثر قدرة على تحليل الأحداث”.

 

أقلام في خدمة القضايا الاجتماعيّة

تلك هي قصّة ثلاثة أطفال لهم ولع بالعدل والحريّة انطلقوا في النّضال وفي توظيف أقلامهم لخدمة القضايا الاجتماعيّة والبيئيّة ومنذ ارتيادهم لمدرسة الكاريكاتور لم يتخلّوا عن أيّ من مبادئهم مواصلين نشاطهم على أصعدة مختلفة فكلّ رسم يرسمونه يحمل قصّة و كلّ كاريكاتور يذكّر بحدث ما فلا عجب أن نسترجع الزّمن عند زيارتنا لمعرض أعمالهم و نحن نرى الرسوم تمرّ أمامنا الواحد تلو الآخر فهم يعتبرون أنّهم يضطلعون بدور المخرج السنيمائي عند انجازهم لتلك الرّسوم حيث أكّدت لنا فريال أنّه لضمان مرور الرّسالة ” لا بدّ من النّجاح على جميع المستويات في إنجاز الرّسم فعندما تعجز الصّورة عن تقديم الإضافة لا أرى معنى لذلك العمل في حدّ ذاته” و أضاف عمر أنّه ” ينافس نفسه” و أنّه يتحدّى ذاته من خلال كلّ رسم ينجزه.

وحيد الهنتاتي مستشار ثقافي مكلّف بإدارة المشروع وقد بيّن لنا أنّ المشروع بدأت فكرته سنة 2016 في أعقاب الاحتفالات بصفاقس عاصمة الثقافة العربيّة عندما قدّم مشروعًا لتنظيم معرض الرّسوم الكاريكاتوريّة بمشاركة أحد عشر رسّاما عربيّا حيث “لاحظنا قدرات كبيرة لدى الأطفال” خلال الورشات التي نظّمناها لفائدة الأطفال على هامش المعرض ومن ثمّة جاءت فكرة مدرسة للكاريكاتور اقترحناها على مشروع تفنّن-تونس المبدعة المموّل من قبل الاتحاد الأوروبي.

تتمثّل أهمّ الأهداف في دفع التنوّع الثقافي التّونسي والنّفاذ إلى الثقافة على المستوى المحلّي والوطني والدّولي وكذلك تعزيز حريّة التّعبير والإبداع خاصّة لدى الأجيال الشابّة مع التّشجيع على الوصول بمهن الثقافة إلى مستوى رفيع من الحرفيّة علمًا وأنّ مشروع تفنّن –تونس المبدعة يدعم مختلف الفاعلين الثقافيّين خاصّة داخل الجهات وهو ما يفسّر إرساء مدرسة الكاريكاتور في ثلاث جهات هي عقارب والعامرة وطينة.

أكّد لنا وحيد الهنتاتي أنّ ” الاختيار كان صعبا لكنّ أساتذة الرّسم ساعدونا في عمليّة الانتقاء وحصرنا اختيارنا في 36 تلميذًا من تلك المناطق من بينهم تسع وعشرون فتاتا وفتاتا وسبعة فتيان”.

إلى جانب النّوادي التي تمّ بعثها في هذه المناطق تمكّن المشاركون من العمل إلى جانب أسماء كبرى في عالم الرّسم الكاريكاتوري من تونس ومن العالم العربي حيث أعلمنا وحيد الهنتاتي بانّه تمّ توجيه الدّعوة إلى “الشاذلي بالخامسة (تونس) وأنيس المحرصي (تونس) و ناجي بناجي (المغرب) و توفيق عمران (تونس) و عبد الرّحيم ياسر (العراق) وسمير عبد الغني (مصر) و قضّى كلّ منهم أسبوعًا في صفاقس لتنشيط ثلاثة نوادي و قمنا في نهاية كلّ زيارة بدمج النّوادي الثلاثة في ورشة جماعيّة” ممّا سمح للمشاركين في مدرسة الكاريكاتور من ربط علاقات وثيقة مع هؤلاء الرسامين المحترفين.

 

إنجازات واعدة و معرض قادم

تواصل التّدريب لمدّة 10 أشهر تمّ خلالها تسجيل أكثر من 150 ساعة من العمل الفعلي ويقول وحيد الهنتاتي في هذا الصّدد:” لاحظنا من خلال الرّسوم والزّوايا التي ينطلق منها الأطفال أنّ مستواهم تقدّم كثيرا ” وهو فخور بمشاركة بعض التّلاميذ في معرض للرّسم الكاريكاتوري في الخارج على غرار أنس و فريال و عمر الذين شاركوا في المهرجان الدولي للكاريكاتير في المغرب.

تواصل مشروع مدرسة الكاريكاتور في صفاقس 10 أشهر انطلاقا من يوم 10 أكتوبر 2017 وسيتمّ تنظيم معرض للأعمال التي أنجزها الأطفال يتواصل من 25 إلى 28 أكتوبر 2018 وسيتمّ أيضا عرض أعمال بعض الرسّامين المحترفين مع أنشطة أخرى لكنّ وحيد الهنتاتي لا ينوي الاكتفاء بها الإنجاز لذلك يعمل حاليّا على بعث منصّة رقميّة للمدرسة لاستغلالها من تونس ومن البلدان الأخرى المجاورة.

إن كنتم من أحبّاء هذا الفنّ، كونوا في الموعد لزيارة المعرض. 


للاطلاع على المزيد

رابط الفيس بوك

رابط تويتر

لينكدين

الصحافة المحلية

اقرأ في: English Français