يجمع المشروع الثقافي “تشبيك” الذي يدعمه الاتحاد الأوروبي خمسين فنّانا وناشطا في المجال الثقافي تحت سقف واحد لدفع قدرتهم التّنافسيّة وتمكينهم من الازدهار داخل بيئة تزداد صعوبتها شيئا فشيئا وتتّسم بعدم اليقين السياسي والاقتصادي.
بينما يفتخرّ الفاعلون الثّقافيّون في الأردن بمواهب الفنّانين المحلّيين وبتراثهم الضّارب في أعماق التّاريخ فهم مازالوا معرّضين لمخاطر الانكماش الاقتصادي وغياب الفرص ممّا من شأنه أن يعوق قدرتهم على تعزيز أعمالهم.
انطلاقا من خبرتها التي بنتها بعد العمل على امتداد عقدين في القطاع الثقافي تعتبر الخبيرة الثقافيّة، رُسل النّاصر، أنّ تشتّت المجال الثقافي المحلّي هو العامل الذي يحول دون الاستقرار.
أدركت رُسل الحاجة الملحّة إلى نسج شبكة متينة من الفاعلين وتدريبهم على تقنيات الاستمرار وهو ليس بالأمر الهيّن في بيئة مليئة بالتحدّيات حيث تعتبر الثقافة ترفا لأنّ المنطقة تهزها الحروب الأهليّة وتعرف تدفّقات للاجئين مع انتشار التطرّف وتزايد نسب الفقر.
رسمت رُسل النّاصر خارطة للسّاحة الثقافيّة من شمال الأردن إلى جنوبه لتكشف عن الاحتياجات الأكثر الحاحا وكان عليها في عملها أن تتجاوز الشكوك التي يحملها المجتمع المحافظ تجاه أهميّة الثقافة بينما العديد من الأسر تناضل لتوفير قوت يومها.
قالت رُسل النّاصر: ” تتمثل المشاكل التي واجهناها في شرح ماهيّة الثقافة للجمهور العريض وفي كيفيّة ربط الصّلة مع الحياة العامّة التي يعيشونها وكنّا نحاول أن نمرّر رسالة فحواها أنّ الثقافة لا تقتصر على الجانب التّرفيهي بل هي نمط حياة ومصدر للدّخل”.
من هنالك انطلق مشروع تشبيك سنة 2017 تحت مظلّة جمعيّة تجلّى من خلال تمويل من الاتحاد الأوروبي في إطار برنامج ثقافة ميد.
تمّ تنفيذ المشروع بالتّعاون مع جمعيّة رواق الأردن للثقافة والفنون من مدينة السلط (تقع على بعد 30 كلم غرب عمّان) وشبكة حوض الفنون MedeArts في إربد وعتبة فن للفنون والإعلام والتدريب من رام الله في الضفّة الغربيّة وهو يهدف إلى “بناء قدرات العاملين في القطاع الثقافي وبعث شبكة تعاونيّة مستدامة من الأفراد والجمعيّات والفضاءات من خلال تنظيم حوارات ومبادلات فنيّة وثقافيّة”.
الفضاء الثقافي اللويبده، واحة للإبداع
تعمل رسل النّاصر دون هوادة مع فريقها في منزل عمره واحد وتسعين عاما من العمر داخل حيّ اللويبده غرب عمّان لتوفير فرص لبناء القدرات والتّشبيك لفائدة مجموعة تتكوّن من قرابة 50 فاعل في المجال الثّقافي.
في ممرّ وسط أحد أقدم أحياء عمّان يوجد المنزل الذي بني بالحجر الجيريّ الأبيض، عنوان التّراث المعماريّ لعمّان و يستقبل البيت بين جدرانه تاريخا حافلا من الأنشطة حيث شهد المكان مختلف الفترات التّاريخيّة للمدينة منذ كانت تجمّعا سكنيّا بسيطا إلى أن تحوّلت إلى عاصمة صاخبة تعدّ مليوني نسمة من خلفيّات عرقيّة مختلفة.
يلتقي الفنّانون والموسيقيّون داخل هذا الفضاء الفريد من نوعه بعيدا عن صخب المدينة لتعلّم كيفيّة التّعبير عن ذاتهم من خلال الموسيقى والفنّ وتبادل وجهات النّظر وسبل رسم مسارهم المهنيّ.
تقول رُسل “يحمل الفاعلون الثقافيّون طاقة كامنة عظمى لكنّهم يفتقرون للعديد من المهارات الأساسيّة في مجال الإدارة الثقافيّة مثل التصرّف في المشاريع الثقافيّة إن كان في مجال الشعر أو الموسيقى” وتضيف قائلة:” ليس للفنانون مستقلون خارج العاصمة عمان أيّ فكرة عن الإجراءات التي يجب اتّباعها وليست لهم ايّ معارف في القانون أو إجراءات التّسجيل وبعث المشاريع ناهيك البحث عن التّمويل وجهود المناصرة”.
الشركاء وقصص النّجاحات
يفتخر مشروع تشبيك بالتّركيز خاصّة على المناطق المهمّشة مثل جرش ومأدبة ومعان واربد وكذلك سط حيث يوجد مركز رواق الأردن للثقافة والفنون الذي أصبح اليوم معلما ثقافيّا في إحدى أقدم المدن الأردنيّة.
في قلب المدينة العتيقة لسلط وداخل أحد منازلها القديمة واجهت جمعيّة رواق الأردن، قبل أن تعمل مع مشروع تشبييك، العديد من المصاعب في سعيها لربط علاقات مع نشطاء وفنّانين آخرين.
في هذا الصّدد يذكر بلال الحياري، الرّئيس المؤسّس لجمعيّة رواق الأردن بكلّ فخر أنّ مئات الأطفال مسجّلين على قائمات الانتظار للمشاركة في دروس الموسيقى المبرمجة في المستقبل ويقول ” يمثّل العمل مع تشببيك فرصة ذهبيّة بالنسبة لنا فمنذ شراكتنا مع المشروع أصبح بإمكاننا دعوة الفنّانين من كافّة أنحاء البلاد وتدريس الموسيقى للأطفال وتنظيم تظاهرات موسيقيّة لإحياء تراثنا المحلّي.” وأضاف الحياري أنّ “الثقافة هي القناة المثلى لدعم صمود المجتمع في الأوقات الصّعبة و لربط الأردنيّين باللاجئين و محاربة التطرّف” بينما يعترف أنّ “الطّريق مازالت طويلة حيث ستمثّل المصاعب الاقتصاديّة و الاجتماعيّة تحدّيات لن نتوقّف عن رفعها”.
في ذات الوقت وفي منطقة وادي موسى على بعد 250 كلم جنوب عمّان حيث توجد مدينة البتراء المنحوتة في الصّخور، بعثت مجموعة من الفنّانين الشبّان بالتّعاون مع رواق الأردن مركز السيق الثقافي وهو مركز ثقافيّ يساعد الفنّانين الشبّان على شقّ طريقهم في عالم الثقافة من خلال توفير فضاء للإبداع والتّدريب على بناء القدرات وإدارة المشاريع.
يعتبر مدير مركز السّيق الثقافي، سفيان الخليفات أنّ الصعوبات الماليّة المطروحة عند بعث فضاء فنيّ كانت من أكبر التحدّيات التي واجهها لكن من خلال الشراكة مع تشبيك تمكّن الفنّانون الذين يتراوح سنّهم بين 18 و24 سنة من البقاء رغم كلّ الظّروف المعاكسة وأكّد على أنّ ” الدّعم الثقافي يكتسي أهميّة كبرى لأنّ الكثير تخلّوا عن التّراث تحت مفعول التّكنولوجيا خاصّة ضمن فئة الشباب ولذلك أصبحت اليوم العديد من الفنون على غرار الرّسم ونحت الحجارة والموسيقى التقليديّة مهدّدة بالانقراض”.
دعم الأردن من خلال البرنامج الأوروبي EU Med culture
ترى كريستيان دبدوب الناصر، رئيسة فريق لدى برنامج EU Med culture ، الذّراع الأوروبيّة لدعم الثقافة في جنوب المتوسّط أنّ الثقافة تضطلع بدور شديد الأهميّة بسبب الطّاقة الكامنة التي تحملها فيما يتعلّق بدفع التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة كما ستلعب الثقافة دورا محوريّا في النّهوض بالمجتمعات الدّامجة التي تبتهج بالتنوّع وتحترم حقوق الانسان وحريّة التّعبير.
يوروميد ثقافة هو الحلقة الأخيرة من سلسلة من المبادرات الأوروبيّة لدعم الثقافة في جنوب المتوسّط تشمل أوروميد للتراث (1998-2013) و أوروميد السمعي البصري (1998-2014) و مؤخّرا البرنامج الشامل ثقافة ميد للثقافة (2014-2019).
تقول كريستيان دبدوب الناصر: ” التشبيك ضروريّ للفاعلين في القطاع الثقافي وللفنّانين امّا في منطقتنا فيكتسي التّشبيك أهميّة أكبر لأنّ العاملين في القطاع والفنّانين مرّوا بفترات طويلة من التّهميش بسبب الأنظمة القمعيّة والمجتمعات التقليديّة الرّادعة”.
بالنّسبة إليها مازالت الطّريق طويلة لكنّها واضحة وضوح الشمس وهي تعمل حاليّا على إنشاء هيئة جديدة تحمل اسم الكيان لتغطّي أنشطة مختلف العاملين في القطاع الثقافي و تربط بين 90 من أهمّ الفاعلين والعاملين في المجال الثقافي في 12 مدينة أردنيّة.
في نفس الوقت، تواصل مشاريع عمّان والسلط والبتراء في اجتذاب الفنّانين الطّموحين الذين يسعون إلى نحت أسمائهم على صفحات تاريخ الساحة الثقافيّة الأردنيّة.