حصّل تاتا لحبيب بريكة على منحة في إطار برنامج ايرسموس مندوس للمبادلات في التّعليم العالي وتابع دراسته في اختصاص الكفاءة الطّاقيّة في جامعة غران كناريا بلاس بلماس في جزر الكناري. بعد حصوله على شهادة الماجستير رجع إلى مخيّمات اللاجئين الصحراويين في الجنوب الشرقي للجزائر لتطوير مفهوم جديد للمباني البيئيّة الصّامدة لعوامل المناخ وذات الكلفة المحدودة بفضل استخدام القوارير البلاستيكيّة.
بتول محمّد فخورة بمنزلها الجديد وتشعر داخله بالأمن صحبة ابنها عبد المجيد الذي يبلغ سنّ السّابعة عشر وهو فاقد للبصر منذ ولادته.
هما صحراويّان يعيشان على غرار عشرات الآلاف من الصّحراويين داخل مخيّمات للاجئين في تندوف التي تقع على بعد 1900 كلم جنوب شرقيّ الجزائر العاصمة على مقربة من الحدود مع الصّحراء الغربيّة وموريتانيا وتتميّز حمادة تندوف بمناخها القاسي حيث تصل درجات الحرارة 60 درجة في الصّيف ويعرف شتاؤها ليالي شديدة البرودة مع عواصف رمليّة مدمّرة.
لا توجد في المنطقة سوى خمس وعشرون وحدة من تلك المنازل دائريّة الشكل التي لا تفوق مساحتها 4 متر مربّع وقد تمكّنت مويلمين صالحة التي تعول أسرة فقيرة جدّا من الانتفاع بإحداها وتقول أنّ حياتها قد تغيّرت تماما منذ أن استقرّت في منزلها حيث ” نقبع خلال ساعات الحرّ ولفح الهجير لأنّ درجات الحرارة تكون أرحم داخل البيت وكنّا في الماضي نخشى هبوب الرّياح بينما نشعر الآن بالأمان ويمكننا حتّى أن نستقبل جيراننا خلال العواصف”.
في الواقع تتحدّث مويلمين صالحة عن منازل فريدة من نوعها لانّ جدرانها قدّت من قوارير بلاستيكيّة!
الاخوة ايرسموس
تاتا لحبيب بريكة الذي يبلغ من العمر 28 سنة هو من صمّم تلك المنازل وشيّدها وقد أطلق عليه سكّان مخيّم أوسرد اسم ” مجنون القوارير” ويفسّر تاتا تلك الكنية بقوله:” تعجّب جيراني من كوني ابحث عن القوارير في القمامة “.
على غرار جلّ الأطفال الصّحراويّين بدأ المسار الدّراسي لتاتا لحبيب بريكة داخل المخيّمات ثم واصل تعليمه في الجزائر ويفسّر تاتا مساره قائلا:” بعد أن تحصّلت على شهادة اختتام التّعليم الثانوي سنة 2009 توجّهت إلى جامعة المسيلة (مدينة تقع في منطقة الهضاب العليا على بعد 250 كلم جنوب شرقي الجزائر العاصمة) حيث حصلت على الإجازة في الطّاقات المتجدّدة ثمّ راسلت العديد من الجامعات الأوروبيّة لمواصلة تعليمي في هذا الاختصاص”.
اطّلع تاتا خلال أبحاثه على البرنامج الأوروبي ايرسموس مندوس وقال لنا بكلّ فخر:” كانت فرصة ذهبيّة بالنّسبة لي لأنّ برنامج ايرسموس قرّر في تلك السّنة تمكين اللاجئين في منطقة شمال افريقيا من منح دراسيّة فأرسلت ترشّحي وترشّح أخي بلّا إلى العديد من الجامعات الأوروبيّة وقُبل ملفّانا في جامعة لاس بلماس بجزر الكناري للمواصلة دراستنا للحصول على شهادة الماجستير في التّرجمة الفوريّة بالنّسبة لأخي بلّا وفي الكفاءة الطّاقة بالنّسبة لي وكنّا بذلك أوّل لاجئين صحراويّين ينتفعان من برنامج ايرسموس مندوس!“.
مكّن البرنامج تاتا من متابعة “دراسة شيّقة” ويقول في ذلك الصّدد:” اكتشفت عالما جديدا ومناهج عمل مختلفة وطريقة تفكير أخرى لحلّ المشاكل فما كان يبدو لي مستحيل التّحقيق أصبح في المتناول من خلال اعتماد بعض المنهجيّات كما اكتست السّنة الدّراسيّة التي قضّيتها هنالك أهميّة قصوى على المستوى الإنساني لأنّني التقيت بطلبة من مختلف الجنسيّات والثقافات وعشت بذلك تجربة انسانيّة عميقة”.
كما سمح برنامج ايرسموس إلى أخيه بلّا من الحصول على تدريب متين وهو يتابع حاليّا دروسا في جامعة امريكيّة للحصول على شهادة الماجستير في اختصاص تسوية النّزاعات ولم يتوقّف الأمر على ذلك بل حصل أيضا أخوهما الأصغر العروسي على منحة من البرنامج تمكّن من خلالها من مواصلة تعليمه للحصول على الماجستير من جامعة في مدريد في اختصاص الأدب الحديث.
منزل لجدّتي
بعد رجوعه إلى مخيّمات تندوف واجه تاتا الواقع المؤلم للاجئين وعاين انّ ” آلاف الشباب الحامل للشّهادات يعاني من البطالة ويقضّي يومه تحت أشعة شمس الحمادة لأنّ فرص العمل داخل المخيّمات محدودة ولكنّني رفضت الإذعان وكنت واثقا من أنّ المعارف التي اكتسبتها يمكنها أن تساهم في تحسين وضع اللاجئين الصّحراويّين”.
قرّر تاتا في نوفمبر 2016 رفع التحدّي من خلال تصميم نوع جديد من المساكن بعد أن لاحظ أنّ ” البيوت في المخيّم هشّة وتتألّف أساسا من أكواخ مصنوعة من الطّوب ولكنّ الإشكال يتمثّل في أسقفها التي تقدّ من صفائح معدنيّة تتسبّب أبسط العواصف في اقتلاعها لتشكّل بذلك خطرا حقيقيا بالنّسبة لسكّان المخيّمات أمّا في فصل الصّيف فترتفع درجات الحرارة داخل المساكن تحت مفعول تلك الصّفائح ليتحوّل المسكن إلى ما يشبه الفرن كما أنّ الأمطار النّادرة التي تتساقط على الحمادة تتسبّب في انهيار تلك الأكواخ تماما”.
شيّد تاتا أوّل مسكن لفائدة جدّته المسنّة والمريضة وأعلمنا بكلّ حزن انّها فارقت الحياة هذه الصّائفة وأنه فخور لكونه أهداها مسكنا قبل أن توافيها المنيّة”.
كيف خامرت تاتا فكرة القوارير البلاستيكيّة؟
يقول تاتا: “أردت في البداية انشاء بناية من الطّين مزوّدة بقبّة نوبيّة وقد خصّصت رسالة ختم دروسي في جامعة غران كناريا إلى هذا الصّنف المعماري الذي يعود إلى العصور القديمة وحصلت بفضل ذلك على أقصى عدد يمكن الحصول عليه 10/10 وشرعت إذا في بناء نموذج تصميمي بالطّوب وكان مخصّصا لجدّتي”.
فشلت التّجربة الأولى ومرّ تاتا إلى مفهوم جديد يشمل سقفا نباتيّا:” جمّعت كميّة كبيرة من القوارير البلاستيكيّة لأستخدمها في شكل إناء لبذور القمح بعد أن أقطعها إلى نصفين وكان هدفي هو الحصول على غطاء نباتيّ أعلى المسكن لضمان حماية طبيعيّة ضدّ الحرارة لكنّني فشلت مرّة أخرى لأنه لم يكن من الممكن زراعة القمح في درجات حرارة تتجاوز الخمسين درجة”. لم ييأس تاتا وأمام الكميّة الهائلة من القوارير التي جمّعها توارت له فكرة استخدامها كمادّة للبناء!
يقول تاتا: ” بدأت بملء القوارير بالرّمل واستخدمتها لإنشاء جدران البيت باستخدام ملاط اسمنتي و حدّدت في كرّاس الشروط الذي رسمته لنفسي الشكل الدّائري للمسكن و اتّجاهه و متانة سقفه الذي يتألّف من بلاطة من الإسمنت ليكون صامدا للرّياح العاتية و للأمطار الغزيرة مع تأمين حماية جيّدة ضدّ الحرارة في الصّيف و البرد القارس الذي تشهده ليالي الصّحراء و ليكون سهل الإنشاء بكلفة محدودة باستخدام مواد تحافظ على البيئة وتبيّنت أنّ القوارير المملوءة بالرّمل هي أكثر متانة من مختلف أنواع الأجرّ و اللّبنات و ممّا زاد في سروري أنّ جدّتي كانت سعيدة بأن تحصل أخيرا على منزل حصين”.
رائد أعمال وباعث لفرص الشّغل
لم يعد اللاجئون يلقّبون تاتا “بالمجنون” الذي يجمع القوارير في القمامة بل اعترفوا بكفاءاته وهم يقبلون من كافّة المخيّمات لزيارة منزله كما بدأت الصّحافة تهتمّ به وجاءت بعثة من المفوضيّة العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين للاطلاع على النّموذج التّصميمي وبعد أن تأكّد المهندس المعماري من متانة البناية اقترح عليه أعضاء المفوضيّة العليا المشاركة في برنامج التّجديد في الخدمات (Service Innovation programme) حيث حصل على المرتبة الثالثة و ميزانيّة بقيمة 60 ألف دولار (51 ألف يورو) لتمويل بناء 25 منزلا عبر مخيّمات اللاجئين الصّحراويّين.
تحوّل تاتا بين عشيّة وضحاها من شاب حامل لشهادات علميّة ومعطّل عن العمل إلى رائد أعمال وباعث لفرص الشّغل! ويقول تاتا في هذا الشّأن: ” بفضل هذه التّقنية أثبتنا أنّ اللاجئين الصّحراويّين لا يعيشون على هامش العالم الحديث وانّهم معنيّون أيضا بالقضايا البيئيّة فرغم ظروفنا المعيشيّة القاسية جدّا نشارك بفعاليّة في إعادة تدوير النفايات البلاستيكيّة”.
تمّ تشييد المساكن (25 مسكنا) داخل المخيّمات الخمس التي تعدّها منطقة تندوف ووزّعت على العائلات المعوزة وأشرفت على عمليّة تخصيص المنازل لمستحقّيها مصالح الوزارة الصّحراويّة للأسرة والرّعاية.
قالت والية مخيّم أوسرد، مريم سالك حمادة، في شرحها للتمشّي المعتمد: ” المنتفعون هم عائلات معوزة من اللاجئين والعائلات التي تعدّ فردا حاملا لإعاقة ولا شكّ في أنّ الحياة معقّدة جدّا بالنّسبة إلى اللاجئين لكنّها أكثر تعقيدا للمعوزين وللمرضى وبما أنّ منظومتنا الاجتماعية تقوم على التضامن فمبادرة تاتا تمثّل عملا ملموسا تجاه الأفراد الأكثر فقرا في مجتمعنا”.
تاتا لحبيب بريكة عاقد العزم على المضيّ قدما في مشروعه ولذلك سيبدأ في غضون أشهر في تدريب يستمرّ سنة كاملة في الأكاديميّة Transsolar Academy بألمانيا لتحسين معارفه وكفاءاته كمقاول للمباني السّليمة بيئيّا أمّا فيما يتعلّق بمستقبل شعبه يقول تاتا: ” أنا أشيّد مساكن للاجئين لكنّ شعبي لن يبقى دوما في هذه المنطقة الصّحراويّة بعد أن قدم إلى حمادة تندوف في منتصف السّبعينات يظلّ هدفه استرجاع أراضيه في الصّحراء الغربيّة وعملي لا يعدو سوى أن يكون جهدا يرمي إلى جلب بعض الرّاحة و الأمن إلى أبناء شعبي ليتمكّنوا من مواصلة الصّمود في انتظار تنظيم استفتاء بشأن تقرير المصير” و أضاف تاتا بكلّ تفاؤل” حلمي الأكبر هو أن أتمكّن من تشييد مساكن في الصّحراء الغربيّة”.