مدرسة في حلاوة البسكويت

مايو 17, 2019
مشاركة في

منذ أن تم توقيع إتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأغذية العالمي، في يوليو 2014، لتنفيذ مشروع “تعزيز إتاحة الفرص التعليمية ومكافحة عمالة الأطفال”، وتحظى عدد من المحافظات المصرية الأكثر احتياجاً بدعم قدره 60 مليون يورو لإبقاء الطلاب في المدارس. أشكال مختلفة من المساعدات الغذائية والمادية التي تهدف إلى محاربة الأمية ومكافحة عمالة الأطفال ومن ثم التسرب من التعليم.

كتابات بخط بسيط مرتبك على بعض الحيطان، وقليل من المحال التجارية الصغيرة المبعثرة هنا وهناك، ومنازل لاشيء يميزها سوى عشوائية البناء، شيدتها الأسر وفق ذوقها الخاص وإمكاناتها المحدودة. لايوجد ما يوحي بعراقة المكان، رغم أن مركز سنورس، الواقع على بعد 88 كم من القاهرة، يرجع تاريخ إنشائه من الناحية الإدارية إلى العام 1871، بل صار حاليا يضم أفقر قرية على مستوى الجمهورية، وفقا لتقارير التنمية الأخيرة، وهي سنهور القبلية. 
تعرف هذه القرية بأن معظم سكانها، الذين يصل عددهم إلى 150 ألف نسمة، يشتغلون كعمال باليومية، وأن بها نسبة مرتفعة من التسرب من التعليم والأمية. وهو ما جعلها أحد الأماكن المرشحة بقوة لأن تحظى بدعم مشروع الاتحاد الأوروبي “لتعزيز إتاحة الفرص التعليمية ومكافحة عمالة الأطفال”. 

في مدرسة سنهور القبلية
مدرسة “سنهور القبلية”،  تحت إشراف وزارة التربية والتعليم، هي إحدى 63 مدرسة مجتمعية توجد على مستوى مركز سنورس، من مجموع 611 مدرسة مجتمعية في محافظة الفيوم، مقسمة على سبعة مراكز. وقد اختار مشروع ” تعزيز إتاحة الفرص التعليمية ومكافحة عمالة الأطفال في مصر”، الممول من الاتحاد الأوروبي بمنحة قدرها 60 مليون يورو، وينفذه برنامج الأغذية العالمي، أن يتعاون مع هذه الفئة من المدارس، في 16 محافظة  مصرية حتى عام 2017، وذلك بعد توقيع إتفاقية شراكة بين الأطراف المعنية في يوليو 2014.  وبسبب الحاجة لمثل هذا العمل مدّت فترة  تطبيقه إلى صيف 2019، لكن تقلص نشاطه في الفترة الأخيرة ليشمل تسع محافظات في الدلتا والصعيد.
جدران مدرسة “سنهور القبلية” يكسوها اللون الأصفر وتزينها قصاصات على شكل شخصيات كرتونية. ركن للأنشطة الفنية، آخر للتعلم من خلال الألعاب، مسرح صغير للأراجوز، كمبيوتر صغير يعرض من خلاله فيديو يساعد على حفظ الحروف والكلمات. والأولاد والبنات يلتفون حول المدرستين، في شكل نصف دائرة. يشاركون في الدرس بحماس ولا يكتفون بالتلقي السلبي. أعمارهم تتراوح بين 7 سنوات و 13 سنة . وذلك مفيد في العميلة التعليمية، كما تؤكد المُدرّسة رانيا عبد القوي، الحاصلة على دبلوم خدمة اجتماعية وتربية، والتي تلقت تدريبا إضافيا من خلال عملها مع المشروع، وبدأت في استخدام “التابلت” منذ إحدى عشر شهرا: ” دفعة أولى ابتدائي معظمهم بنات، 26 تلميذ وتلميذة، من بينهم خمسة أولاد فقط، بعضهم أقارب. الأكبر سنا يساعدون الأصغر، وهذا الأخير يتلقى منهم المعلومة أحيانا بشكل أفضل، لأنهم أقرب له، وهو ما يعرف بتعليم الأقران. نقوم بتدريس العربي والحساب، وتقديم الأنشطة، من الساعة الثامنة صباحا حتى الثانية ظهرا، يتخلل ذلك فترة راحة في العاشرة والنصف يتم فيها توزيع وجبة البسكويت المجاني. ويأتي استشاري لتدريس اللغة الانجليزية مرتين في الأسبوع. أما مسرح العرائس فنستخدمه في تعديل السلوك فيما يتعلق بالنظافة أو الأمانة أو الصدق، على سبيل المثال”.

حصص غذائية يومية وشهرية
الواقع يجعل من هذه النوعية من المشروعات ضرورة لتطوير المجتمعات الأقل حظا من كل شيء: الخدمات، المستوى الاقتصادي، معدل المعيشة، إلى ما غير ذلك. بدأ المشروع بتوزيع وجبات يومية خفيفة في المدارس، لمد الأطفال بحوالي 25% من احتياجاتهم الغذائية اليومية، إذ يحتوي “بسكويت الاتحاد الأوروبي”، كما يسميه أهل القرية، على فيتامينات ومعادن، يتم خلطها بعجينة البلح أو “العجوة”، وفق وصفة مخصوصة، تصنع بالتعاون مع شركات محلية محددة، طبقا للمعايير الدولية. أربع قطع من البسكويت تشعر الطفل بالشبع، بعضهم يأخذه معه للبيت وأحيانا يتقاسمه مع إخوته أو يأكله خلال فترة الراحة من الفصول الدراسية. ولضمان انتظام الحضور المدرسي للأطفال، يقدم المشروع حصص غذائية شهرية يستلمها الأهل، تقريبا أول كل شهر، تتكون من 10 كيلوجرامات من الأرز ولتر واحد من زيت الطعام، أضيف إليها مواد أخرى أكثر تنوعا، منذ تفعيل نظام الكروت المميكنة (السي بي تي) قبل عامين ونصف لتسهيل توزيع المواد الغذائية المقررة لكل أسرة بواسطة 18 تاجرا معتمدا في سنورس، مثل المعكرونة والتونة والعسل والدقيق والعدس والسمك، على ألا تقل نسبة حضور الأطفال عن 80%.  
كما أوضح برنامج الأغذية العالمي في مصر: أننا نحاول تعويض الدخل الذي كانت ستحصل عليه الأسرة لو عمل أحد أبنائها، من خلال عملنا مع 3.285 مدرسة مجتمعية في سائر أنحاء الجمهورية، وقد قمنا بالفعل بتقديم الخدمة إلى  91.600 تلميذ، وتدريب 8.800 مدرس ومدرسة، كما حصلت 52.200 من الأمهات على 11.440  قرض لأن أولادهن يذهبون للمدرسة بانتظام. وأضاف أن المدارس المجتمعية التي نتعاون معها لها طبيعة خاصة، فقد أنشئت غالبا بالجهود الذاتية لبعض الأهالي أو الجمعيات، وتخضع لإشراف وزارة التربية والتعليم. وفصولها تتسع لحوالي عشرين تلميذا، من أعمار مختلفة، مما يحتاج إلى مرونة في التفاعل والتكيف من قبل المدرسين، لذا فقد حرصنا على تدريبهم لاتباع طرق حديثة في التعليم.
آية، 13 سنة، هي قائدة الفصل المدرسي لليوم، كما يشير التاج الورقي الذي وضعته على رأسها. لم تستطع الالتحاق بالمدرسة في سن أصغر لظروف تتعلق بوفاة والدها، وعدم توافر شهادة الميلاد الخاصة بها، لكنها مصرّة أن تحصل على شهادة تمكنها من التدريس وتعليم أخريات. أما يمنى، وهي الأصغر سنا في الفصل، حوالي سبع سنوات، فهي من المتفوقين الذين يحلمون بكلية الطب. والأكثر مشاغبة، وهو أحمد، 11 سنة، الذي يجلس على بعد خطوات، يشيد الجميع بموهبته في العمل اليدوي، فقد صنع دراجة بخارية بسيطة. 
 

بقالة أم إسلام
عندما تصل الرسالة التليفونية إلى أهله أو إلى غيرها من الأسر الحريصين على تعليم أولادهم والالتزام بشروط المشروع الذي يموله الاتحاد الأوروبي، يتوجهون على الفور إلى أحد التجار الذين عهد إليهم بتوزيع المواد الغذائية، ومنهم أم إسلام التي تدير محل بقالة منذ عشرين عاما. بواسطة كارت مميكن يتم استلام المطلوب، كلٌ حسب حصته التي تصل إلى 180 جنيه منذ بدايات المشروع، الذي سيترك بالطبع فراغا عند انتهائه، على حد قول المستفيدين منه في قرية سنهور القبلية. أم إسلام ازداد عدد المترددين عليها منذ تعاونها مع المشروع، ربما سيتأثر نشاطها بتوقفه، لكن لديها مهنة تحميها.
المشروع الذي يموله الاتحاد الأوروبي يتعاون مع متخصصين بالعمل الميداني، وهؤلاء يقومون بدور همزة الوصل بين الجمعيات والمدارس المحلية وبين الباحثين في العاصمة الذين يضعون خطط العمل، تبعا لاحتياجات كل محافظة. نيفين أديب صموئيل، المتخصصة في مجال الخدمة الاجتماعية والتنمية، تؤدي هذا الدور على أكمل وجه منذ عام 2016، فهي من أبناء محافظة الفيوم، وتعرف تفاصيل حياة من تتعامل معهم، وتتابع مراحل المشروع المختلفة: توزيع الحصص المنزلية، صيانة وتوزيع أجهزة “التابلت” أو الألواح الإلكترونية على المدرسين، التأكد من نسب الحضور، تحديث الكروت المميكنة (السي بي تي) التي يتم بمقتضاها الحصول على المواد الغذائية المقررة لكل أسرة، إلى ما غير ذلك. ونيفين تعرف أيضا قصص نجاح بعض أبناء هذه المدارس الذين تخرجوا قبل فترة: ” فلانة صارت دكتورة جراحة في مستشفى الفيوم العام، وفلان أصبح لاعب كرة وهو في الثانوي، وآخر تخلص من فكرة الثأر وانتظم في كلية الآداب.”.
الحكايات تتسارع على لسانها، كما يتهافت عليها الناس للاستفسار عن القروض وإمكانية تنفيذ مشروع صغير، فمشروع الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأغذية زاد من حجم التوقعات والفرص والأحلام، وهو ما نستطيع أن نلمسه بوضوح بمجرد أن تطأ أقدامنا مدرسة سنهور القبلية، التابعة لمؤسسة مصر الخير للتعليم المجتمعي. وذلك لأن مشروع الاتحاد الأوروبي، الذي يهدف إلى محاربة التسرب من التعليم، قرر بعد فترة من العمل على الأرض أن يقدم قروضا ميسرة للأمهات تسمح لهن بالقيام بمشروعات وأعمال صغيرة، مما يساعدهن في الوفاء بمتطلبات الحياة، وبالتالي لا يعتمدن على شغل أولادهن لتحسين الدخل. 
 

السمك رزق
نعمات إبراهيم، 45 سنة، تبيع الأسماك منذ أكثر من ثلاثين عاما، على عكس العديد من نساء القرية اللائي لا يعملن. تفترش الأرض، على مقربة من سوق سنهور القبلية، وأمامها تشكيلة من أسماك الشبار والحفار والجمبري، قد وضعتها على ثلاجة صغيرة حمراء، إلى جوار ميزان يدوي. ” أخذت قرضا مُيسر قيمته 3.500 جنيه، 180 يورو، ساعدني أن أشتري الميزان والثلاجة، مما سهل مهمتي، ففي السابق كنت أحاول التخلص من كمية السمك التي في حوزتي مع نهاية اليوم، أما الآن فيمكنني أن أحتفظ بما تبقى للغد، بفضل الثلاجة. وضعت ابنتي الصغرى في المدرسة، لذا صار من حقي أن أشارك في التدريب الذي يُمنح للأهالي، خاصة الأمهات، وأن أقدم على قرض”. وتضيف نعمات: “أسدد القرض على 15 شهرا، أي أدفع 258 جنيها شهريا، وهو مبلغ بسيط أخرجني من مأزق”.
نعمات تقص حكايتها، ووجهها يحمل ضحكة واسعة، رغم أن ملامحها توحي بسن أكبر من عمرها الحقيقي. تتحدث عن أبنائها الكبار “الصبيان” الذين يرحلون إلى أسوان للعمل بالصيد، لكنها تبتسم أكثر وهي تتكلم عن ابنتها الأصغر التي التحقت بالتعليم، ونجحت حتى وصلت للصف السادس الإبتدائي. وتقول: ” أتمنى أن تكمل تعليمها، طالما أنا على قيد الحياة. هي من تقرأ لي أسماء الدواء والعلاج، لقد تعلمت التفريق بين الصح والغلط في المدرسة. إخوانها يخافون عليها، لكنني سأصر على ألا تلاقي نفس مصيري”. الإبنة تحلم بأن تصبح طبيبة مثلها مثل أخريات من صغيرات القرية اللائي تمتلأ بهن مدرسة “سنهور القبلية”.
تلك المدرسة المجتمعية لم تعد مجرد مكان يتلقى فيه الأولاد  العلم، بل  محور الحياة للعديد من الأسر، الذين تغيرت أوضاعهم بفضل دعم مشروع الاتحاد الأوروبي، فصار هناك أمل في مستقبل مختلف. وهو ما تشعر به راوية جمعة، في كل مرة تنظر فيها إلى حفيدتها وهي تمسك في يدها حفنة من الفول الأخضر، وترى فيها هذا المستقبل. رواية لديها بنتان في المدرسة، وبسبب انتظامهن في التعليم صار من حقها، وفقا للمشروع، أن تحصل على تدريب الأمهات، ومن ثم تلقي مساندة مادية تسمح لها بتحقيق نوع من الاستقرار. قسمت فلوس القرض الذي حصلت عليه بينها وبين زوجها، هو اشترى عربة يجرها حصان لبيع الخضروات والفاكهة، وهي تقتسم معه البضاعة وتبيعها، على بعد خطوات من المدرسة، في صباحات الشتاء الرطبة. تبدل واقع الآباء، ومعه مستقبل الأبناء.

روابط EU Neighbours

الفيسبوك

تويتر

لينكدين

إينستاجرام

رابط تويتر1

رابط تويتر2

رابط تويتر3

وفد الاتحاد الأوروبي

موقع مصر

مصر FB

اقرأ في: English Français