مدرسة غواصي المهام الصّعبة
تنجز كلّ من الجزائر وفرنسا واسبانيا مشروع توأمة مؤسّساتيّة “لدعم قدرات الحماية المدنيّة الجزائريّة” وقد انطلق المشروع في شهر جانفي/يناير 2017 لمدّة سنتين و خُصّصت له ميزانيّة بقيمة 1,5 مليون يورو من برنامج دعم تنفيذ اتّفاقيّة الشراكة (P3A) بين الجزائر و الاتحاد الأوروبي.
يهدف مشروع التّوأمة إلى تحسين الوقاية من المخاطر وتعزيز القدرات العمليّة لفرق الحماية المدنيّة وتحسين الكفاءة وتماسك الفرق من خلال أنشطة تدريب ملائمة مع دفع القدرات اللوجستيّة باعتبار الجوانب البيئيّة للتخفيف من حدّة الكوارث وينتظر أن يُحقّق العديد من النتائج من بينها وضع الأسس لبعث المركز الوطني للغوص التابع للحماية المدنيّة
المكان: بوزجار
بوزجار، ميناء صغير للصيد البحري في منطقة عين تموشنت على بعد 500 كلم غرب الجزائر العاصمة . تحوّلت وحدة الحماية المدنيّة المحليّة إلى مركز عمليّ لتنفيذ مهمّة فريدة من نوعها تتمثّل في تحديد المواقع البحريّة لتدريب نخبة من الغوّاصين ويشرف على هذا النّشاط الذي يدور في إطار مشروع التّوأمة لدعم قدرات الحماية المدنيّة الجزائريّة المموّل من قبل الاتحاد الأوروبي ثلاثة مدرّبين أوروبيّين وستّة غواّصين جزائريّين رفيعي المستوى.
استقبلت بوزجار في بداية شهر جويلية/ يوليو الحارق أوّل الغوّاصين الجزائريّين المختصّين في “الحيّز غير المفتوح” وهي تقنية تسمح بالتدخّل في المغارات المغمورة بالمياه والكهوف البحريّة العميقة وسيتولّى هؤلاء الضبّاط مهمّة التّدريب في إطار المركز الوطني للحماية المدنيّة الذي سيبعث مستقبلا في اختصاص الغوص.
القاعدة الثلاثيّة
تمّت تهيئة بهو الدّخول في شكل قاعة اجتماعات حيث يقف الرّائد حسين فنان أمام السّبورة لتقديم التّعليمات واستعراض مراحل عمليّة الغوص الاستكشافي التي تهدف إلى زيارة حطام فرقاطة بريطانيّة غرقت خلال الحرب العالميّة الثانية أمّا المدرّبون الأوروبيّون الثلاث، عميدا الحماية المدنيّة الفرنسيّة، جان جاك قرينو و جوال أوكلير و عميد الحماية المدنيّة الاسبانيّة، فيكتور مارتان فهم يتابعون بكلّ عناية الشّرح الذي يقدّمه الضّابط الجزائري لأنّ حصّة التّقديم تمثّل تمرينا شديد الأهميّة وتضطلع بدور أساسي عند تنظيم عمليّات الإنقاذ.
قال لنا الرّائد حسين فنان: ” تتمثّل مهمّتنا في الوصول إلى موقع حطام الفرقاطة للقيام بعمليّة استكشاف والتأكّد من امكانيّة استخدام المكان لتدريب الغوّاصين وسنتوزّع في هذه المهمّة إلى ثلاثة فرق يعدّ كلّ فريق منها ثلاثة غوّاصين كما نحن ملزمون بتطبيق القاعدة الثلاثيّة التي تتمثّل في الحفاظ على كميّة من الغاز تفوق الكميّة التي تستخدم ذهابا وإيابا لتأمين سلامة الغوّاص”.
رغم الأمواج القويّة تمّت العمليّة دون تسجيل أيّ اشكال وعكس كلّ التوقّعات تبيّن أنّ الفرقاطة لا يمكنها أن تمثّل موقعا للتّدريب وقد لخّص لنا بسرعة العميد، جون جاك قرينو المنسّق الوطني لأعمال الإنقاذ البحريّة والحماية المدنيّة الفرنسيّة ما جرى خلال عمليّة الغوص التي أنجزتها الفرق الثلاثة:” الفرقاطة في حالة سيّئة ولا يمكن الدّخول إليها والتنقّل عبر ممرّاتها ولذلك لا يمكننا الغوص ” تحت السقف” (التّسمية الثانية للغوص في حيّز غير مفتوح) لتدريب الغوّاصين في هذا الموقع”. بيد أنّه تمّ التعرّف خلال هذا النّشاط على أقطاب أخرى للتّدريب على المهامّ الخاصّة غرب الجزائر وبالتّحديد في وهران حيث يمكن التدخّل في المغارات المغمورة بالمياه وفي تلمسان داخل الكهوف البحريّة العميقة.
طيف ثام-لوانغ
يعمل العميد جون جاك قرينو منذ قرابة خمسة عشر سنة في مجال تنفيذ المخطّطات التدريبيّة مع نظرائه الجزائريّين وأشار في هذا الصّدد إلى أنّ ” الحماية المدنيّة الجزائريّة اعتمدت خطّة تنمويّة طموحة في مجال تدريب إطاراتها وكوادرها و يتمثّل الهدف من تلك الخطّة في الوصول إلى بعث مركز وطنيّ للغوص في تيبازة (75 كلم غرب الجزائر العاصمة) يتولّى تدريب مهنيّين قادرين على انجاز عمليّات انقاذ في مختلف الأوساط و البيئات و تلتحق الجزائر بذلك بالبلدان المتوسطيّة والافريقيّة التي فهمت أهميّة تكوين وحدات من الغوّاصين رفيعي المستوى و هي فكرة تتجاوز مبدأ الإنقاذ لأنّ هؤلاء الغوّاصين المهنيّين مطالبون في حالة تسجيل كوارث بانتشال جثث الضّحايا و هو ثقافيّا مبدأ أساسيّ لتمكين الأسر من تخطّي مرحلة الحداد.
بمحض الصّدفة، دارت أنشطة التعرّف على أقطاب لاحتضان التّدريب على مهام الغوص بينما تعيش تايلندا التي تبعد أكثر من 10 آلاف كلومترا عن الجزائر مأساة علق خلالها ثلاثة عشر طفلا على امتداد أسبوعين في مغارة ثام لوانغ ومكّنت عمليّة الإنقاذ التي حقّقها فريق من الغوّاصين المختصّين في الحيّز غير المفتوح من تأكيد الخيار الصّائب الذي قامت به الحماية المدنيّة الجزائريّة و قد علّق الرّائد حسين فنان على ذلك بقوله”” ما عرفته تايلندا هو حدث استثنائيّ و لكن مع تطوّر السياحة في الجزائر و الاقبال الكبير على استكشاف المغارات و الكهوف لا بدّ لنا من الاستعداد لمواجهة هذا النّوع من الطّوارئ”.
القوّة 9
كان حسين فنان طالبا في اختصاص إعلاميّة التصرّف ثمّ غادر سنة 1992 الجامعة للالتحاق بصفوف الحماية المدنيّة وقال لنا مفسّرا قراره ذاك:” كانت بلادي تمرّ بفترة مأساويّة بسبب الإرهاب وكان من واجبي أن أخدمها”. نشأ حسين في حيّ باب الجديد على مرتفعات القصبة في الجزائر العاصمة وقد تمّ توجيهه نحو وحدة التّدريب فور تخرّجه من المدرسة الوطنيّة ببرج البحري واكتشف ذلك الضّابط الشاب الغوص بمحض الصّفة عندما كان يتابع حلقة تدريبيّة سنة 1998: ” وجدت عند ذلك طريقي لكنّني فهمت سريعا أنّه لا بدّ لي من المثابرة ومن المشاركة في دورات تدريبيّة لأنّ الغوص يشمل عددا كبيرا من الاختصاصات فالتحقت بالجامعة الجزائريّة للغوص لأحصل على شهادة مدرّب ثم على سلسلة من المؤهّلات للوصول إلى مستويات معيّنة من العمق في قاع البحار”.
تمكّن الرّائد حسين بسرعة من تطبيق المعارف التي اكتسبها وبدأ في ذلك منذ شهر نوفمبر 2001 عندما عرفت منطقة باب الواد فيضانات كبيرة خلّفت 700 قتيلا وقال لنا الرّائد أنّه ” نظرا إلى وعورة التّضاريس هنالك غمرت المياه بعض المناطق المنخفضة من الحيّ على امتداد العديد من الأسابيع وكنّا نغوص للبحث على جثث الضّحايا وقد دارت الأحداث خلال شهر رمضان وكانت الجزائر بأسرها في حالة حداد ومررنا فعلا بفترات عصيبة”.
تابع حسين بنجاح دورات تدريبيّة متقدّمة خاصّة في فرنسا لدى المعهد الوطني للغوص المهني بمدينة مرسيليا وهو اليوم المنسّق الوطني للغوص لدى الحماية المدنيّة الجزائريّة برتبة مستشار تقني ومدرّب من الدّرجة الثالثة وهي من أعلى الرّتب في الجزائر.
يتقن الرّائد فنان كافّة جوانب مهنته من التدخّل إلى القيادة مرورا بالتّدريب وقال لنا أنّ ” الحماية المدنيّة كانت دائما تعدّ في صفوفها غواّصين ماهرين وليس جيلنا سوى الوريث الشرعي لهؤلاء وأعتقد أنّ نظراءنا الأجانب يعترفون بكفاءاتنا في هذا المجال” وبالنّسبة لحسين فنان يتمثّل التحدّي الحقيقي في نقل الخبرة التي اكتسبها إلى الغواّصين الجدد.
المراكز المختصّة
أشار العميد طبيب كريم هابي المكلّف بالمهام الخصوصيّة إلى أهميّة مشروع التّوأمة لدعم قدرات مصالح الحماية المدنيّة الجزائريّة و خاصّة فيما يتعلّق بإنجاز أقطاب التّدريب على المهامّ الخاصّة : ” بدأنا في تدريب الغوّاصين منذ عدّة سنوات بفضل برنامجين لتعزيز كفاءات خبرائنا من قبل الحماية المدنيّة الفرنسيّة (صندوق التضامن ذي الأولويّة ) أمّا التّوأمة مع المؤسّسات الفرنسيّة و الاسبانيّة المموّلة من قبل الاتحاد الأوروبي فهي تمكّننا اليوم من وضع أولى لبنات المركز الوطني المستقبلي للغوص و كذلك الأمر بالنّسبة إلى المركز الوطني للتّدريب على التدخّل في الأوساط المحفوفة بالمخاطر الذي سيتمّ بعثه في منطقة تيكجدة في جبال جرجرة و نحن نأمل أن يصبح المركزان مؤسستين مرجعيّتين على المستوى الإقليمي”.
سيمكنّ دخول المركزين حيّز الاستغلال الجزائر من تدريب مهنيّين قادرين على التّعامل إزاء مجموعة واسعة من المخاطر إذ يرى العقيد بيار لوناي، المستشار المقيم لشؤون التّوأمة انّ “المشروع يمثّل برنامجا طموحا أطلقته الحماية المدنيّة الجزائريّة بفضل الدّعم المالي الذي يوفّره الاتحاد الأوروبي فإلى جانب العناصر ذات العلاقة بالتّدريب على المهام الخاصّة يشمل مشروع التّوأمة 23 نشاطا ً آخر تطلّبت على امتداد سنتي التّنفيذ تعبئة 140 خبيرا ً أوروبيّا ً “.
من ضمن الأنشطة التي تمّ تنفيذها نذكر انجاز دراسة مقارنة للنّصوص التنظيميّة حول الوقاية في الجزائر وفي الاتحاد الأوروبي وصياغة مرجعيّة وطنيّة للخطّة الوقائيّة عند الطّوارئ في الجزائر ودراسة حول تحسين اللوجستيّة الطبيّة عند الأزمات وتقديم للمقاربة الأوروبيّة وكذلك دليل لتقييم الحاجة للمساعدة الانسانيّة الدوليّة.
من أبرز المحطّات التي عرفها مشروع التّوأمة نذكر تظاهرة EU-AL SEISMEEX 2018 التي تمّ تنظيمها من 14 إلى 18 أفريل 2018 لإجراء محاكاة دوليّة جمعت كلّا من فرنسا و اسبانيا و بولندا و إيطاليا و البرتغال و تونس و الجزائر و التقى خلالها 1000 مشارك (300 دوليّين و 700 جزائريّين) لمجابهة تداعيات رجّة أرضيّة بقوّة 7 درجات على سلّم ريشتر في منطقة البويرة الجبليّة ( على بعد 100 كلم شرق الجزائر العاصمة) و قد أخذ السيناريو بعين الاعتبار كافّة جوانب التدخّل في سبع مواقع مختلفة.
وحسب الضّابط الفرنسي فإنّ ” هذا التّمرين واسع النّطاق سمح باختبار الجاهزيّة والتّعاون بين كافّة الأطراف في حالة تسجيل زلزال قويّ”.
مساهمة برنامج دعم تنفيذ اتّفاقيّة الشراكة (P3A)
يؤمّن العقيد بيار لوناي، المستشار المقيم لشؤون التّوأمة ومساعدته النّقيب راشدة زيكارة من الحماية المدنيّة الجزائريّة كافّة الجوانب الاداريّة واللوجستيّة لمشروع التّوأمة و قد أكّد لنا أنّ “التّنفيذ و المتابعة يتطلّبان تعبئة متواصلة من جانب فريقنا رغم صغر حجمه و العمل في حدّ ذاته ممتع وهو يتطلّب التزاما دائما و معرفة معمّقة بخصائص المجال الذي نعمل فيه” و لا شكّ في أنّ وحدة التصرّف في البرنامج التي تنسّق الأنشطة بين جميع الأطراف و خاصّة برنامج دعم تنفيذ اتّفاقيّة الشراكة بين الجزائر و الاتحاد الأوروبي لتي دخلت حيّز التّطبيق سنة 2005 تضطلع بدور محوريّ في تحقيق نتائج المشروع.
يتمّ تمويل مشروع التّوأمة إلى حدود 1,5 مليون يورو من خلال برنامج دعم تنفيذ اتّفاقيّة الشراكة وتشرف على إدارته وزارة التّجارة الجزائريّة ” ويهدف البرنامج إلى دعم الإدارة الجزائريّة وكافّة المؤسّسات المساهمة في تنفيذ اتّفاقيّة الشراكة من خلال مدّها بالخبرة والمساعدة التقنيّة وأدوات العمل الضروريّة لتقريب الإدارات”.
أمّا في بعثة الاتحاد الأوروبي في الجزائر العاصمة فالجميع يفتخر بمشروع التّوأمة هذا ويذكره كمثال لإحكام التّنفيذ حيث يقول ماركو سيولي، المكلّف ببرامج التّعاون لدى بعثة الاتحاد الأوروبي في الجزائر “نحن أمام أطراف لها درجة عالية من المهنيّة والدقّة وقد سجّلنا تعاونا حقيقيّا ضمن النظراء وبين المهنيّين صلب الهيئات الرسميّة”. وهو يعتبر أيضا أنّ هذا النّوع من المبادرات من شأنه أن يمتّن الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي وأن يحملها إلى مستوى تتحقّق فيه المنفعة المتبادلة.
يوم الخميس 19 جويلية/يوليو، اجتمعت اللجنة التّوجيهيّة لاستعراض إنجازات التّوأمة قبل سّتة أشهر من موعد اختتام المشروع وبهذه المناسبة أكّد العميد الطّبيب صحراوي عماري أنّ ” النتائج ايجابيّة للغاية وأنّه قد تمّ احترام الجدول الزمني الذي رسم للأنشطة” وأضاف والابتسامة تعلو محيّاه بانّ الفريق قد تمكّن أيضا من انجاز بعض الوفورات في الميزانيّة”.
كما سجّلنا أيضا استحسانا من الجانب الاسباني الذي أشاد بتقاسم الخبرات بين الخبراء الاسبان و ضبّاط الحماية المدنيّة الجزائريّة حيث ذكرت السيدة سيلفيا ناقرة الوسك انّ ” احدى النّقاط التي سنتطرّق إلى مناقشتها اليوم هي إمكانيّة التّمديد في الفترة المخصّصة لمشروع التّوأمة و هو طلب مرشّح للقبول من جانب برنامج دعم تنفيذ اتّفاقيّة الشراكة نظرا ً لتوفّر الأموال و في حالة التّمديد سيتمكّن غوّاصو النخبة التابعين للحماية المدنيّة الجزائريّة من تعزيز قدراتهم بهدف المشاركة الفاعلة في تدريب الجيل القادم من المنقذين المكلّفين بالمهام الصعبة.