المركّب التربويّ بمنطقة البحر الأزرق: من قال انّ المعجزات لا تحدث؟

أبريل 26, 2024
مشاركة في

في قلب منطقة البحر الأزرق، وسط الشوارع الصاخبة في أحد أكثر الأحياء حرمانا في تونس، ينتصب المركز التربوي بالبحر الأزرق كمنارة للأمل. ليس المركز مجرّد بناية بل هو حرم وملاذ للتّعليم ومرفأ للفرص ورمز للتقدم لفائدة الأجيال القادمة.

عندما يرن الجرس على السّاعة العاشرة صباحا للإعلان عن انطلاق فترة الرّاحة، ينبض المبنى فجأة بالحياة بعد الهدوء الذي كان يغمره. تحت أشعة الشمس الذهبية، يختلط الهواء بالضحك وثرثرة الطّلبة وإيقاع الخطوات الحثيثة التي يتردد صداها عبر الممرات.

تنتمي سوسن إلى الفريق الإداري وهي تعرف جميع الطّلبة شخصيّا وتغمرهم بعطفها وعنايتها. قالت لنا بكلّ فخر: “هم أبنائي”. تعتبر سوسن، على غرار كافّة زملائها، أنّ عملها في المدرسة ليس مجرّد وظيفة بل هو دعوة ورسالة لرعاية العقول الشابة التي أُمّنت عليها. 

حدّثنا مدير المركّب التربويّ وقد رسم ابتسامة عريضة على محيّاه تترجم المفعول الايجابيّ العميق للمركّب على طلبته : “هم يشعرون أننا نوليهم كلّ العناية وأن هذه المدرسة تمنحهم أفضل الفرص للنجاح. وهو ما يجعلهم يلتزمون أكثر بالانضباط، وأنا أشعر بالفخر عندما أصرّح بأنّ هذه المدرسة هي المؤسّسة الأقل اضطرابا التي عملت فيها على الإطلاق “. 

بالفعل، خلف جدران المركّب التّربوي يعمل الجميع على رفع العراقيل وبناء الأحلام وتشكيل المستقبل.

داخل الفصول الدراسية، يتفانى المدرّسون في عملهم مدفوعين بالفضول العلميّ والاندفاع اللامحدود لطلبتهم وقد قالت لنا مدرّسة اللغة الفرنسيّة وهي تتّقد حماسا: “بعد أن توفّرت لنا قاعات التّدريس أصبح لدينا فضاء واسع وطلبة في غاية الحماس. أريد تهيئة المكتبة مع الطّلبة وأن أطلق ناديا للمطالعة وربّما ناديا للمسرح”.  

سد الفجوة التعليمية

 تم افتتاح المركّب التّربوي بالبحر الأزرق خلال شهر سبتمبر 2022 بعد سنة واحدة من الأشغال فاتحا أمام سكّان المنطقة حقبة تعليميّة جديدة والعديد من الفرص. 

قبل بناء المركب التّعليمي، كان البحر الأزرق وهو منطقة مكتظة بالسكان، يفتقد لأيّ مؤسّسة تعليميّة خاصة به، لذلك كان على الأولياء تسجيل أطفالهم في مدارس بعيدة في المناطق المجاورة وكانوا يقتادون أطفالهم إلى مدارس مختلفة في أماكن متعدّدة أغلبها بعيد عن مقرّ إقامتهم. 

شكّل افتتاح المركّب لحظة تاريخية لا فقط لمنطقة البحر الأزرق بل للمجتمع المحليّ بأكمله. يعدّ المركّب مدرسة ابتدائيّة وأخرى إعداديّة ومعهدا ثانويّا إضافة إلى روضة أطفال بلدية ومطعم وملعب رياضي لتيسير نفاذ سكّان المنطقة للتّعليم الجيّد في مرافق قريبة منهم. 

لم يعد الأولياء مخيّرين بين التعليم والراحة ولم يعد الأطفال محرومين من فرص التعلّم والنّشأة داخل حيّهم بفضل المركّب الذي كان وعدا بالتّعليم الجيّد والمتاح للجميع تمّ الوفاء به. 

برنامج تحديث المؤسّسات التربويّة: قوّة تدفع نحو التّغيير 

رُصدت للمركب التربويّ بالبحر الأزرق الذي يستوعب 1650 طالبا ميزانيّة تتجاوز 11 مليون دينار ليكون بذلك أحد أكثر مشاريع البناء طموحا في أطار برنامج تحديث المؤسّسات التربويّة. بدعم من الحكومة التونسية والاتحاد الأوروبي والبنك الأوروبي للاستثمار وبنك التنمية الألماني، يهدف البرنامج إلى تحسين جودة الفضاءات التعليمية في المؤسسات التربويّة من خلال أشغال الاصلاح والتجديد لتصبح تلك الفضاءات أكثر جاذبية ولحثّ الطّلبة على متابعة الدّروس صلبها كما يهدف إلى تعزيز وتجديد الموارد التعليميّة داخل المؤسّسات.  

من المرافق الحديثة إلى الالتزام بالاستدامة، يعكس كل جانب من جوانب المركّب التّربوي احتراما كبيرا للبيئة واهتماما واضحا برفاه الطّلبة والموظفين. تعلو الألواح الشمسية سطح المبنى كما تدلّ كافّة تفاصيله وكلّ ركن من أركانه عن تكاتف المجتمع المحلّي في سبيل إنشاء هيكل استثنائيّ. 

يعدّ المركّب التّربوي أيضا مطعما مشتركا لطلبة المرحلتين الاعداديّة والثانوية تمّ اعتماد معايير الامتياز لتصميم فضائه الفسيح والحديث وإعداد أكلاته التي تنافس ما تقدّمه المطاعم الفاخرة ليتناول الطّلبة معا وجبات ذات جودة عالية.

أمّا الرّسم الذي توشّح به الجدار فهو شهادة واضحة على روح التعاون التي تسود المكان حيث عمل فنّان مع عدد من الطّلبة الموهوبين لإضفاء الألوان والحياة على المكان. 

من سكّان إلى أطراف معنيّة: تعزيز امتلاك المجتمع المحلّي للمشروع

لا يقتصر المركّب التّربوي بالبحر الأزرق على أن يكون مدرسة عصريّة بمرافق حديثة بل تطوّر ليصبح مركزا نابضا بالحياة المجتمعية.

يقول مدير المركّب في هذا الشّأن: “السكان سعداء جدا بهذا الفضاء التّعليمي ويعتبرون أنّه طالع خير ويبشّرهم بأشياء قادمة أفضل كما يبيّن لهم أنّهم لم يتخلّفوا عن الرّكب”.  هو شعور يتقاسمه جميع سكّان المنطقة الذين أصبحت المدرسة تمثّل لهم رمزا للأمل والتقدم.

لكن ما يميز المركّب التّربوي حقّا هو انفتاحه على المجتمع المحلّي والاحتواء الذي يتلقّاه في المقابل فقبل توظيف فريق التّنظيف كان الطّلبة وأفراد عائلاتهم يجتمعون في نهاية كل أسبوع لتنظيف المدرسة ولم يكن ذلك يمثّل لهم عبئا ثقيلا بل كان نشاطا عائليا غرس لديهم الشّعور بالفخر وتملّكوا من خلاله المشروع والمركّب التّربوي. 

 

بيد أنّ الرحلة لم تخلُ من التحديات حيث عرفت المدرسة في الأيّام الأولى أعمال تخريب قام بها عدد من الشباب المحبط الذين لم يروا في المدرسة سوى هدفا لتوجيه استيائهم. لكنّ المدرسة اتّخذت قرارا شجاعا وعوض أن تضع الحواجز لمنع الأذى فتحت أبوابها للمجتمع المحلّي في عطلات نهاية الأسبوع لتسجّل إثرها نتائج مذهلة.

نقل لنا ناظر المدرسة تلك النتائج مبتسما: ” تحوّلت المدرسة إلى فضاء يحتضن الصّغار والكبار. يأتونها للنّزهة ويحملون معهم مضخّمات الصّوت للإنصات للموسيقى ولتنظيم مباريات لكرة القدم في الملعب”. عبر تملّك المجتمع المحلي للمشروع، اكتشف أفراده داخلهم الشّعور بالانتماء وتبيّنوا غاية يردون بلوغها وفي المقابل أصبحوا من أعتى حماة المدرسة.

توقّفت أعمال التخريب وأصبح شباب الحيّ يفتخرون بحماية المبنى لأنّهم أدركوا أنّ المدرسة هي ملك لهم بقدر ما هي ملك للطّلبة وللموظّفين لتتجلّى من خلال ذلك قوّة الادماج وامتلاك المجتمع المحلّي للمشاريع والأعمال المنجزة لصالحه.

إحياء الأمل من جديد: عودة الشباب الضائع إلى المدرسة 

عند زيارة المدرسة خلال عطلات نهاية الأسبوع أراد البعض من الأطفال المتسرّبين من الدّراسة العودة إلى المسار الدّراسي. حدّثتنا سوسن عن ذلك بكلّ شعف بينما تقف في ساحة المدرسة المزدحمة بالطّلبة: “لقد نشأت هنا وعملت في المدرسة الإعدادية في هذا الحي قبل بناء المدرسة. أعرف العديد من هؤلاء الأطفال منذ سنوات ورأيت البعض منهم يغادرون مقاعد الدّراسة”. 

أردفت سوسن قائلة بصوت فيه الكثير من نبرات الأمل: “منذ أن علموا أنني أعمل في المدرسة الجديدة الجميلة، اتصل بي الكثير منهم للتّعبير عن رغبتهم في استئناف تعليمهم وهم اليوم يعملون بكدّ حيث التحقوا بالدّراسة من أين توقّفوا”.

من خلال دعم الاتحاد الأوروبي وتفاني وحماس المدرّسين والتزام المجتمع المحلّي، تحوّل المركّب التّربوي من مجرّد مدرسة إلى رمز للأمل ومصدر لإلهام الأجيال القادمة وعندما فتحت المدرسة أبوابها لاستقبال جيل جديد من الطلبة سطع مستقبل البحر الأزرق ومع كل طالب يتخطّى تلك الأبواب يتجدّد الوعد بضمان تعليم جيّد ومتاح وفرص لا حدود لها ومستقبل مشرق للجميع. قصّة المركّب التّربوي بالبحر الأزرق هي قصّة الصّمود والتّمكين وقوّة التّعليم على تغيير الحياة وتحويل المجتمعات المحليّة، ترويها اليوم النّظرة المتألّقة في عيون كل طفل تجرأ أن يحلم. 

مازالت الرّحلة في بداياتها ومع كل خطوة إلى الأمام تُقطع تحت نور المعرفة وبدفع الطّموح، يتقدّم المجتمع المحلّي في منطقة البحر الأزرق بشجاعة نحو مستقبل يمكن فيه تحقيق كلّ الأحلام مهما كانت تبدو مستحيلة.  

اقرأ في: English Français
العلامات
التعليم الشباب